منتديات خاراس الرسمية

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    الجزء الثالث من رحلة في غياهب المجهول

    أحمد ابراهيم الحاج
    أحمد ابراهيم الحاج

    {{ كبار الشخصيات }}


    {{ كبار الشخصيات }}


    الجنس : ذكر
    البرج : الحمل
    عدد المشاركات : 231
    العمر : 72
    البلد : فلسطين - خاراس
    نقاط النشاط : 204
    الاعجاب : 4
    الدوله : فلسطين

    الجزء الثالث من رحلة في غياهب المجهول Empty الجزء الثالث من رحلة في غياهب المجهول

    مُساهمة من طرف أحمد ابراهيم الحاج الإثنين 29 نوفمبر 2010 - 7:47

    الجزء الثالث من رحلة في غياهب المجهول
    في أحد الأيام دخلت لوسي لمكتب المدير وأغلقت الباب قبل انتهاء الدوام بربع ساعة وخرج كل الموظفين، وبدأت انتظر الأوامر للعودة للبيت وتناول الغداء، ويبدو أنها نسيت وجودي بانتظار التعليمات بالإنصراف ، وكانت قبل ذلك قد أرسلتني الى مطعم السردي أثناء الدوام لإحضار غداءٍ لشخصين ، وأثارت فيّ رائحة الطعام من اللحم المشويّ براكين الجوع التي كانت تتفجر في داخلي، وخلال انتظاري خارج مكتب المدير وبدافع من نداء معدتي الخاوية المستثارة برائحة الشواء ، اقتربت من مكتبه متردداً وخائفاً من طرق الباب لآخذ الإذن بالإنصراف لسد رمق الجوع الذي يهاجمني ، استرقت السمع من خلف الباب لأستطلع الموقف في داخل غرفة المدير لأكشف نوعية النقاش إن كان يسمح بالمداخلة بطلب الإذن أم لا ، سمعت تأوهات داخل الغرفة ، صوت المدير ممزوجاً بصوت السكرتيرة. يا للهول ، مصيبة ، جريمة وكارثة في عرفي وثقافتي وديني ، وبدأ الصوت يتراوح من علوٍّ الى تناقص تدريجي الى تخافت الى هدوءٍ ثم الى علو من جديد متردداً كأمواج الصوت وأخيراً ران صمت تام كتوقف القلب عن النبض تماماً كالرسم البياني لتخطيط القلب لمريض يحتضر ويعاني من سكرات الموت المتواترة بين الصحوة والغيبوبة وأخيراً وافته المنية وصار الرسم البياني خطّاً مستقيماً. وهنا تسللت على رؤوس أصابع قدمي عائداً لمكاني المعتاد في ردهة الإستقبال بالمدخل بعيداً عم مكتب المدير وكأنني لم أسمع أو أكتشف السر وراء محارم الكلينكس، .وبعد لحظات وفي استراحة للمحاربين خرجا من الغرفة وهما يعدلان هندامهيما وشعوريهما ، ولاحظت احمرار وجه لوسي وكأن الدماء تكاد أن تتدفق منه ، وآثار القبلات على وجنتيها وقد حشرت الدماء فيهما في احمرار أضفى عليها مزيداً من الفتنة، والفوضى على شعرها الذي بدا مبعثراً قليلاً على غير العادة ، ولاحظت قميص المدير محشواً تحت بنطاله بطريقة غير مرتبة كما اعتدت أن أراه ، ولكنني لم ألحظ آثاراً لأحمر الشفاة ، فقد كانت لوسي لا تحتاج له ، فقد وهبها الله جمالاً طبيعياً يفوق تأثير المساحيق ، وكانت المصيبة أن رأياني أنتظر فصاح فيها المدير : لوسي: لماذا ينتظر هذا الولد هنا؟ ، إنه مرفوض لا أريد أن أرى وجهه بعد الآن في الشركة ، وكانت لوسي شجاعة وقالت له: هذه غلطتي ، لأنني أخبرته ألاّ يغادر المكتب بدون إذني ، ونسيت أن آذن له بالإنصراف. فقال ، إنقليه الى مشروع العبدلي عند أخيه ليعمل أي شيء. فردت لوسي إن نقلناه لمكان آخر سوف يختلط بالعمال والمراقبين والنجارين والمهندسين ويبوح إليهم بأسرار وقرارات الشركة التي كنت أطبعها ، نحتفظ به في المكتب لأننا بحاجة اليه و....ثم همست بأذنه بكلمات فهمت معناها وقصدها بدون سماع تفاصيلها ، وهنا تدخلت بشجاعة ودهاء وقلت: عن ماذا تتحدثون وأي أمر سأتحدث به ، انا لم أرَ ولم أسمع شيئاً دار بينكما عن الشركة لقد كنت نائماً على الكنبة الطويلة أصارع الجوع ، فقال المدير ألم تسمع سرّاً من اسرار الشركة ومشاريعها وتنقلات المدراء والمهندسين والقرارات الجديدة التي سأتخذها والتي كنت أمليها على السكرتيرة لطباعتها ، قلت له: يا سيدي والله ما سمعت اسرارا عن الشركة ومشاريعها وقراراتها السرية وكان يميني صادقاً لأنني سمعت غير ذلك، وهنا أشار باستمراري في العمل. ظناً منه أنني لم أكتشف السر الذي كان بينهما وكذلك لا تعلمه زوجة المدير المسكينة. كان المدير شاباً وسيماً في بداية الثلاثينيات من عمره ، مفتول العضلات ، رشيق القوام ، وطويل القامة ، برونزي البشرة ، وهو من أبناء أحد مالكي الشركة وزوجته ابنة عمه (ابنة المدير العام للشركة). وكانت سيارته من طراز جاكور زرقاء اللون أنيقة وفاخرة وملابسه متناسقة الألوان تحتضن جسده المفتول بخفة ورقة وانسجام وكان يشبه الممثل المصري أحمد رمزي في شبابه.
    لقد انهارت في مخيلتي وفي خيالي وفي نفسي صورة الجمال التي رسمتها للوسي ، وانتابني شعور بالقنوط من صداقتها أو من أن تبادلني الإعجاب وقليلاً من الحب ، شعرت أنها كانت تمثل لي صرحاً من خيال عشعش بداخلي فهوى ، وشعرت بالهزيمة في أول مواجهة مع امرأة ، وانطفأ بصيص الأمل بحبها بالرغم من إشارات عدم الإهتمام بي أثناء العمل ، ومعاملتي كخادم لها ولمآربها ، واكتشفت أن خيالي كان جامحاً ومتخطياً للخطوط الحمر والحدود ، وبدأت مفاهيم الحب العذري تتزعزع بداخلي وبوجداني ، سمعت الخيانة بأذني ، ولمست تفريط المرأة بالأمانة التي أودعها الله بها للمحافظة عليها ، كيف لهذا الجمال الصارخ أن يهب نفسه لعلاقة محرمة في مهمة مؤقتة ومن أجل راتب شهري مادي ، ذلك ما استنتجته خلال عملي هناك ، أين رسالة الحياة؟ ، أين الوفاء والإخلاص والشرف؟ والذي تربيننا عليه بالقرية ، وآلمني خيانة المدير لزوجته ، لقد كانت صدمة بكل المقاييس ، طلبت من أخي أن أنتقل للعمل معه في الورشة مساعد نجار ، وسألني عن الأسباب ، فقلت له لا أتحمل طبيعة هذا العمل ، أوامر ونواهي وتعليمات ، إن فيه نوع من الإذلال والدونية ، فأنا على استعداد أن اتحمل العمل الشاق تحت الشمس في سبيل الخلاص من العبودية ، وأن أكف عن مشاهدة وسماع انتهاك الأخلاق والمباديء التي تعلمناها وتربينا عليها. فهم أخي كل شيء ، وقال لي أكمل الدوام كما كنت ، وسأحاول مع المدير للموافقة ، فهم بحاجة اليك الآن في المكتب. شعرت بطول الموضوع وعدم حسمه في وقت قريب عاجل. وبدأت أفكر بالخلاص من هذا المأزق. وقرّرت أن أمسح من ذاكرتني كل ما راودني من خيال جامح غير متعقل حيال لوسي.
    وفي اليوم التالي ذهبت للعمل ، حيث لم أنم إلاّ قليلاً في تلك الليلة الفائتة لتصارع الأفكار في خلدي ووجداني وذاكرتي وعواطفي وأحاسيسي وعقلي وخيالي ، وتلاطم الغريزة المتدفقة بين جدار الرغبة الجامحة وجدران الحرمان والأخلاق والدين والخوف والرهبة وقلة الخبرة في ممارسة تلك المواقف والتعامل معها ، وكانت الأحلام في لحظات عابرة قصيرة من النوم تأخذني الى بستان الحب في واحة جميلة تعمر بالمياه في ذهاب يظلله السعادة وقلة الظمأ ويعود بي الواقع في إيابٍ بصدمة الحرمان واللامعقول والظمأ الشديد ، وكانت الفرصة قد سنحت عند قدوم لوسي للمكتب ، كانت تحمل بيدها كيساً لا أعرف ما بداخله ، ونادتني ، وأعطتني الكيس وقالت لي : خذ هذا الكيس وإذهب الى أحذية القبطي في شارع بسمان ، واستبدل الحذاء الذي فيه بنمرة أقل درجة ، فأنا كلمتهم بالهاتف وهم يعلمون ما أريد ، ولا تتأخر ، فقلت في نفسي لقد سنحت الفرصة ، فمسكت الكيس من يديها ، وقلت لها : أنا أعمل مع شركة شاهين ولها ، ولا أعمل معك ولك ، ورميت الكيس على مكتبها وأدرت ظهري ومسكت الباب في انصراف بلا عودة. وراحت تناديني أحمد أحمد تعال ، خلاص ما بدي تروح ، ولم أستمع لكلامها ونزلت الدرج بسرعة أتنفس رياح الحرية والإنطلاق تماما كما كنت في القرية ، وانتابني شعور عارم بالسعادة كمن يخرج ويتخلص ناجياً من مأزق محدقٍ وصعب وقع فيه. اتجهت الى مقهىً في سوق السكر كان يجلس عليه بعض من شباب القرية يلعبون الورق ، منهم من أتى معي ولم يجد عملاً ومنهم من يعمل أصلاً ويأتي وقت الراحة للمقهى.
    جاء أخي مساء من عمله ، وقصصت عليه ما حصل ، فقال لي : إنك تدللت في حياتك من كل أهل البيت بسبب شطارتك في المدرسة ، لا أريدك أن تعمل ، خذ مصروفك وخليك عندنا بالعطلة تسلي الأولاد ، وطلبت منه أن أعمل بالورشة ولكنه رفض ، وقال لي لا تهتم سأعطيك مصاريف الدراسة عند عودتك للبلد. ولكنني ألحَّيت عليه ، فنزل عند رغبتي وأخذني معه في صباح اليوم التالي لأعمل في ورشة العبدلي مساعد نجار، عملت فيها اسبوعاً كاملاً ، وكان مُعلِّمي نجاراً متعلماً ومثقفاً إضطر لترك الدراسة ، وكان اسمه سليم الأسمر من بلدة تفوح ، وكان اسمراً اسماً على مسمى ، وربما لم تكن الأسمر هي العائلة بل اللقب من منطلق تميزه بهذا اللون ، وكان دمث الأخلاق وصاحب نكتة ونخوة ووطنية، وقد تعاطف معي وكان يسمح لي بالإستراحة بين الفينة والأخرى ، ولا يكلفني بأعمال شاقة عليّ ، وقد علمت فيما بعد أنه أصرّ على إكمال دراسته وحصل على درجة الدكتوراة.وفي أحد الأيام وبينما كنت مُزوِّغاً عن العمل في استراحة بالظل ، وفي جولته متفقداً للمشاريع لمحني مدير المشاريع الذي كنت أعمل مراسلاً بمكتبه ، فناداني وأنبني على جلوسي بدون عمل بعبارات قاسية ومؤلمة لم أسمعها من قبل وتركت في نفسي أثراً مؤذياً أشعرني بقلة قيمتي وبالإهانة ، وكان يحمل عليّ لتركي العمل بالمكتب كمراسل له ولسكرتيرته ، وتحدث مع سليم الأسمر ومع أخي ، وفهمت بعد ذلك أنه أمر بوقفي عن العمل ، لقد كان أسيوعاً ممتعاً ، والمتعة فيه هي الاستيقاظ المبكر ، والدوام في موعده ، وكنا نسعد باستراحة الغداء ، وكان غداؤنا خبزاً وحبات من البندورة وخياراً ، وأحياناً خبزاً وعنباً وجبنة من جبنة البلاد ، وحقيقة الأمر كنت استمتع بهذا الطعام ، وبالأحاديث والمزاح بين العمال وقت القيلولة يعبرون عن سعادتهم وراحة بالهم وامتنانهم وشكرهم لله بنفوس راضية قانعة ، وهمة قوية وعالية ، و سعدت بالنوم المبكر ، لقد كانت حياة منتظمة طيلة ايام الأسبوع ، والأمتع من ذلك يوم الجمعة الذي كنا نقضيه في التجوال والتنزه في شوارع عمان واسواقها. ولم تستمر سعادتي بذلك حيث اوقفت عن العمل ، وهنا أصرّ أخي على قضاء ما تبقى من العطلة دون عمل ، وقد قبضت بنهاية الأسبوع دينارين و70 قرشاً أي بمعدل بمعدل 45 قرشاً باليوم وكان مبلغاً محترماً في ذلك الوقت. كان ذلك قبل بداية حرب حزيران 1967 بخمسة أيام ، وعدت أرتاد المقهى المعتاد في سوق السكر.
    أحمد الحاج

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة 10 مايو 2024 - 17:09