منتديات خاراس الرسمية

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

2 مشترك

    آمنة و خليل/الجزء العاشر

    أحمد ابراهيم الحاج
    أحمد ابراهيم الحاج

    {{ كبار الشخصيات }}


    {{ كبار الشخصيات }}


    الجنس : ذكر
    البرج : الحمل
    عدد المشاركات : 231
    العمر : 72
    البلد : فلسطين - خاراس
    نقاط النشاط : 204
    الاعجاب : 4
    الدوله : فلسطين

    آمنة  و خليل/الجزء العاشر Empty آمنة و خليل/الجزء العاشر

    مُساهمة من طرف أحمد ابراهيم الحاج السبت 5 مارس 2011 - 10:37

    آمنة وخليل/ الجزء العاشر
    ...............................................
    انتظمت الدراسة في العام الدراسي 1960/1961م ، وقارب تشرين الأول لسنة 1961على الإنتهاء وبدأ الناس يحضرون لجداد الزيتون ، وذهبت آمنة مع والدها ووالدتها وأخيها سليم لجداد ما ضمنوه من زيتون قليلٍ في زاوية من كرم ابي خليل. وكان خليل على غير عادته وانتظاراً منه لرؤية آمنة سباقاً لأهله لمساعدتهم في جداد الزيتون بالكرم مما أثار استغرابهم جميعاً لنشاطه غير المعتاد ، وقد أكملت عائلة آمنة الجداد في يومٍ واحد ، وتوجهت في اليوم الثاني لمعاونة عائلة خليل ، وكانت مناسبة جد سعيدة لتبادل نظرات الشوق والإعجاب بينهما وأحياناً التحدث مع بعضهما البعض واستخدام الألغاز في الحديث والتي ما خفيت عن أم آمنة المؤتمنة من بنتها على هذا السر. وعند اقتراب موعد الغداء فوجيء الجميع بأبي خليل ينادي للغداء ، فتمنع ابو سليم وتعذر وقال له : والله ما إلو لزوم يا ابو خليل ، إحنا بنأدي واجبنا وخيرك سابق يا غانم ، لقد أحضرنا الزاد معنا ، ولكن ابو خليل أصر بل وأقسم على أن يتغدوا سوياً مما قُسم وقال لأبي سليم "إن شاء الله بنساعدكم في تلقيط البرتقال والليمون من بياراتكم في البلاد يا ابو سليم" ، فقال ابو سليم " ربك كريم ، ان شاء الله يا ابو خليل ونذر علي لو رجعنا الاّ أذبح خمسين خروف واعزم كل أهل بلدكم" ، وكان المقسوم من الغداء منسفاً من العيار الثقيل أعدته ام خليل على نار المواقد في غرفة بالعزبة ، وكان الرز مغطىً عن بكرة أبيه باللحمة من القطع الكبيرة كقذائف المدفعية ، هذا عدا عما دفن من قطع اللحمة بداخل الرز ، ووزعت الوليمة على منسفين كبيرين ، وكل منسف عليه لحمة ذبيحة كاملة برأسها.
    بدأ أهل القرية بجمع الحطب من خشب البلوط والزعرور والبطم والسويد والعسود والقش المخزن ، وتحضير مواقد النيران وتجهيز الأثافي وجمع بعض تنك الزيت وتخريمه ليوضع فوق النار ليزيد من تهويتها من جميع الجهات وبالتالي يزيدها اشتعالاً ولتوزيع الحرارة بين الجالسين حولها بالتساوي بحثاً عن الدفء ، حيث دخل فصل الشتاء ببرده وقره ، وانهمكت النساء وربات البيوت في تجهيز الأكل الشتوي من الزيت الطازج وإرساله الى الرجال في دواوين العائلات ، مثل الزلابية والملاتيت والفطاير بالسبانخ والبصل الأخضر والسلق والقرنبيط الأخضر المحشي بالرز فقط والأمشاط من الزهرة مع الطحين والزيت والسمبوسك والمطبق والرشتة والمجدرة وما تيسر من مخزون الخوابي من القطين والزبيب والدبس والملبن وقلائد البامية والبندورة المنشفة والمعلقة في أروقة المنازل وورق العنب المكبوس في المرتبانات. وتجهيز الشاي بالشومر والنعناع على نار الحطب.
    لاحظت آمنة أن خليل كان يأتي للباص في أيام الشتاء بدون معطف يقيه من برد تشرين الثاني وكانون الأول ، وكان يرتعد من البرد وهو جالس بالباص ويحمل زوادته في خريطة الكتب حيث كانت المدارس في القرى تدوام فترتين صباحية ومسائية وبينهما فسحة طويلة للغداء ، وكانت زوادته من اللبن الزبادي والزيت والزيتون وحبات من القطين والزبيب وكسرة من خبز الطابون ونادراً ما كان يحصل على النقود الاّ ما يكفي لأجرة الباص والتي لم تكن تتجاوز القرشين وغالباً ما كان يعود لقريته مشياً على الأقدام يأخذها مقاطعة بخط مستقيم لاختصار المسافة والوقت الطويل في انتظار الباص الوحيد والأوحد للقرى الثلاث، وكان يمشي لمسافة تقترب من خمسة كيلومترات وكثيراً ما فاجأه زخ المطر ولزوجة الأرض بالطين والوحل ، ولما اشتد البرد في كانون الثاني صار يأتي للمدرسة بمعطف قديم مرقوع ، فراودتها (آمنة) نفسها بشراء معطف له كهدية من إشفاقها عليه وحرصها على رتابة هندامه ، واستشارت والدتها التي أبدت تحفظاً وممانعة لذلك ، وقالت لها : أنا شايفه يا بنتي الموضوع مش مهضوم ، وما هو مناسب إلك وبالذات مش مناسب أكثر لخليل ورح يتفسر وينفهم من الناس غير عن قصدك . وفي نفس الوقت أبدت استغرابها لابنتها من والد خليل الذي يضيع دخله القليل من المحاصيل الزراعية ، ومن الثروة الحيوانية من صوف ولبن جميد وجبن وخراف وجديان صغيرة على الكرم الحاتمي المفرط ، إذ كان الفلاحون في تلك الأيام يعانون من عدم تسويق منتجاتهم ومن قلة بيعها بثمن منصف ومن احتكار تجار المدينة للأسعار. وكان ابو خليل يحب إطعام الضيوف ممن يلفون على القرية ، فبيته يطل على الشارع العام في مدخل القرية ، وهو يجلس دوماً على الفرندة المقابلة للشارع وأمامه بكارج القهوة العربية والفناجين ، وكان لا يترك ماراً من قريب أو غريب الاّ الحّ عليه باستضافته ، فلا يروق له الطعام والشراب وحيداً الاّ مع الغير من الضيوف ومع أهل القرية ، وكان كل ضيف يلفي على القرية يذبح له ذبيحته لوحده ومختلفة عن الثاني حتى لو كان يفصل بين قدومهما وقت قصير. وقالت لآمنة " والله بشفق على أم خليل ، الله يكون بعونها شو شقيانه هالمره ، بتحضر الفطور والغداء والعشا أكثر من مرة ، هذا غيرعن القهوة والشاي والطبيخ والنفيخ والعجين والخبيز ، وفوق هذا كل سنة بتحمل وبتولد ، أي والله لو إنها حديد الاّ تذوب" ، أي طيب كان أبدى يشتري لأولاده معاطف ، والله هذا كرم زايد عن حده وفي غير مكانه ، وكمان هذا بصراحة الإشي الوحيد اليّ مخوفني عليك ومخلّيني اتردد يا بنتي إن صار نصيب وأتجوزتي خليل ، خايف تصيري مثل ام خليل خدامة للضيوف وغير الضيوف.
    فقالت آمنة : اطمني يا ماما ، خليل تفكيره مختلف عن كل أهله وحتى عن كل أهل القرية ، وكثير بنتقد هذي التصرفات وطريقة المعيشة اليّ على البركة وبدون حساب. بالعكس هو منظم ومرتب ومنفتح وبحب الإستقلالية وبدافع عن حقوق خواته البنات كثير لأنو ابوه وإخوانه مفكرين ما يعطوا البنات المجوزات من الميراث خوف يروح الرزق للغريب ، بس هو رافض ومصر يعطيهم حسب الشرع والقانون "للذكر مثل حظ الإنثيين".
    فقالت والدة آمنة : بشوفك قاطعة شوط كبير في العلاقة والرّغي مع خليل وبتعرفي أخبار غميقة بالعيلة ، ليش ما بتحكي لي أول بأول ، مش كان هذا شرطنا من الأساس يا أمونة؟ ، ديري بالك وإوعي تزحلق رجلك بالمية ، لأن البحر غدار يا ماما ، خليكي دايماً ماشية بحذر على الشط يا بنتي لما ربنا يسمح بالنصيب ، الواحد ما بدري شو بصير معاه وما بعرف وين نصيبه ، وشرف البنت مثل القزاز إذا انشظى صعب يتصلح ويرجع مثل ما كان ، وإذا لا سمح الله انكسر بنكب وما في أبداً مجال للإصلاح. والناس في هالقرية فاضية أشغال ، بحصدوا هالحصيدة وبحفظوا الغلة وبجدوا هالزيتونات وبخزنوا هالزيتات وبقعدوا للغيبة والنميمة وشغلتهم القال والقيل. والنسوان في هالقرية بتتعب في هالحياة أكثر من الرجال اليّ دايماً قاعدين بالزقاق يراقبوا الرايحه والجايه ، ويلفوا سجاير ويدخنوا ويلعبوا السيجة وبروحوا المغرب على نسوانهم مغبرين من القعدة على الأرض وجوعانين بدهم أكل ونوم ويا ويلها الحرمة اذا مش مجهزة الأكل والاّ مش جاهزة للنوم بصير يهدد فيها بالزواج عليها بدون مراعاة لشعورها وأحاسيها وبدون تقدير لجهدها وتعبها وشقاها معاه.
    فقالت آمنة : إن شاء الله دايماً وأبداً بكون عند حسن ظنك يا ماما ، حطي ايديك بمية باردة وما توصي حريص ، وطبعاً أنا تربايتك يا حبيبتي جمولة ، وما تخافي على بنت جميلة وبنت حبيبك ابو صطيف لو كانت بين ألف رجال بتطلع من بينهم زي الشعرة من العجين. وإن شاء الله عن قريب بتولدي وبتجيبي أخت إلي من شان ما أظل وحيده وشدي حيلك تجيبي كمان أخو لسليم.
    انتهى فصل الشتاء وانتهى معه مواء القطط وتزاوجها ، وكان موسماً مبشراً بالخير في ذلك العام ، ودخل فصل الربيع ، وما أجمل فصل الربيع في البلاد ، فبدأت الأشجار تعيد كسوة نفسها من جديد ، ونبت الزرع والعشب في كل مكان حتى في الطرقات وفي الصخور ، فاكتست الجبال والسهول والوديان بحلة خضراء يانعة كاللوحة الفنية الجميلة التي يعجز الفنانون الموهوبون من البشر عن محاكاتها. إنها لوحة ربانية من الخالق لهذه الأرض المباركة. وتبدو تحت الغيوم الماطرة كقطعة من قماش الحَبَر الأسود والمطرزة بالحرير بألوان زاهية كالثوب الفلسطيني التراثي ، زهور اللوز البيضاء ، وزهور الأقحوان الحمراء ، وزهور الحمحم الزرقاء ، وزهور البسوم الصفراء ، وزهور الحنون الحمراء وزهور التفاح والمشمش والخوخ والدراق .......الخ. هذا بالإضافة الى ظهور قوس قزح الملون في الآفاق من فوق الجبال والتلال والسفوح ، وكانت الفراشات الجميلة تحوم في الحقول وتعكس هذه الألوان في عيون الناظرين فتبدو ملونة بألوان زاهية متنوعة ويعتقد الناس أن الفراشة ملونة بالخلقة بينما هي تحمل على أجنحتها جيوباً مغطاة بأغشية شفافة تحلل الضوء كالمنشور الزجاجي وتعكس الألوان فتبدو ملونة للناظرين. والضفادع الصغيرة والكبيرة تتنطنط وتنق على حواف البرك والغدران ، والسلاحف تنتشر ببطء باحثة عن رزقها من العشب وتخبؤ رأسها كلما لمحت انساناً أو عدواً وتتحوصل في قوقعها الصلب ، وكانت القطط تداعبها وتدحرجها على الأرض لعلها تنال منها شيئاً. وبدأت العصافير بأنواعها وألوانها الجميلة المتنوعة كالبلابل والكناري والفنيق والدوري والفسيسي والحِمري والشرقرق المحنى خرطومه باللون الأحمر والقبرة وأبو شاويش صاحب التاج على الرأس ، والكركزان والشنار والحمام البري والقيس قوم تخرج من مخابئها في الأرض وتعود من هجرتها الى البلاد ، وتحط على الأشجار والجدران وتجوب الجو زرافات ووحدانا وتطلق بأصواتها المشدية والمطربة تعبيراً عن فرحتها بالربيع وتحضيراً لحفلات تزاوجها وتكاثرها وبناء أعشاشها. وبدأت النساء وربات البيوت يطبخن ما يتيسر لهن من خشاش الأرض مثل الخبيزة والعكوب وورق اللسان (لسان الثور) والحمّيضة والمرّار والخرفيش ، والفقع والهويسة من القمح المنبت المشوي والحمص والفول الأخضرين والصميدعة والبُرّيد والسعيسسعة والجلثون والقرّيص والخس البري والبلبوس والحلبة والزعتر والميرمية والقرنية والجعدة.
    وبدأت المواشي تتوالد في آذار ، بعد موسم مغدق بالعشب والرعي ، فتسمع شبابة الرعاة في المروج وسفوح الجبال وتعكس صداها الوديان وهي تعزف الحان الدلعونا ويا زريف الطول وعالربعية وجفرة ويا هالربع ، إنهم يعبرون عن فرحتهم بموسم رعي جيد ويعكسون سعادة مواشيهم بالولائم من الحشائش من خير هذه الأرض ، وما أجمل لقاء المواشي بصغارها بعد فراق يوم من السعي في مناكب الأرض لجني الرزق مما قسم لها ، فتجدها تسرع الخطى وتنادي صغارها شوقاً وحنيناً عند الإقتراب من السيرة (السيرة مؤنث من كلمة السور) التي ترقد فيها مع صغارها ، وترد عليها صغارها التي تتضور جوعاً بعد يوم كامل من الصيام وبصوت واحد ماع ماع. فتعرف كل صغيرة أمها وتعرف كل كبيرة ولدها أو ابنتها ولا تخطيء وكأنها جاذبية فطرية من خيوط مغناطيسية لا ترى بالعين المجردة من الحنان والشوق تجذب الصغار لأمهاتها. وبدأ موسم غذائي جديد لأهل القرية من الحليب واللبن المخيض والجبن واللبن الجميد والزبدة والسمن البلدي. وبدأت ولائم المفتوتة (خبز وحليب وسكر) والحثيمة من حليب اللباء من المواشي حديثة الولادة الذي يبعث النشاط والطاقة والقوة بالجسم ويقي من البرد. وانتشر الصغار من أطفال القرية في ساحات وحارات القرية كبراعم الثمار ونوارها وزهراتها على الأشجار. وكان الجو مابين غائم الى غائم جزئي ، ولطيفٍ أحياناً وباردٍ احياناً أخرى ، وكانت زخات من المطر الدافيء الحنون نسبياً تطرق على الأبواب والشبابيك ، وكانت الشمس تظهر وتختفي بين الفينة والأخرى والغيوم تغازل الأرض وترسل برذاذها اليها. وانتشرت العجائز في أزقة القرية يتشمسن في زرقة الشمس وهي متسللة من بين الجدران ، ويجلسن تحت خيوط منبعثة من الشمس الدافئة لإخراج ما اختزن تحت جلودهن من برد طيلة الشتاء ، وكنّ يخضن في أحاديث شتى ، والتمَّ كبار السن من الختيارية في الساحات يتجاذبون أطراف الحديث. وذهب الشباب زرافات ووحداناً الى الحقول والسهول والجبال يبحثون عن الفقع وبيض الشنار وما تيسر من خيرات الأرض من نبات وحيوان وطيور. وانتشرت الفتيات في أحواش البيوت وساحاتها يلعبن الحجلة. واغتنمت النساء بعض الوقت للخياطة والتطريز بالحرير لتحضير الأثواب وتهديب الكوفيات للرجال وللعسكر من منتسبي الجيش والحرس الوطني. وبدأت عطلة الربيع للمدارس.
    كان ابو سليم قد اشترى عنزة شامية لتوفر لهم الحليب، وليتفادوا الحرج من دار ابي خليل الذين كانوا يبعثون لهم الحليب يومياً ، وفي أحد الأيام ذهب ابو سليم مبكراً لمدينة الخليل للقاء الإقطاعي الذي يدير ارضه بالبلدة وتأخر بالعودة ، ويبدو أن موعد ولادة العنزة الشامية قد حان ، فارتبكت ام سليم وابنها وابنتها ماذا يفعلون للعنزة التي تعاني من مخاض الطلق ، فأشارت ام سليم على ابنها سليم للذهاب لمنزل الداية وإحضارها لتساعد العنزة على الولادة ، وفي طريقه الى منزل الداية غيّر رأيه وذهب للسقيفة التي يدرس بها خليل والذي لديه الخبرة في ذلك ، وطرق الباب ورد عليه خليل مهلياً ومرحباً وداعياً له بالدخول ، فقال له سليم "الحقنا يا خليل ، العنزة بتطلق يمكن بدها تولد ، ومش عارفين شو نسوي وابوي في الخليل ". وأمي بعثتني أجيب الداية ، فضحك خليل وقال له " لو الغنم بدها داية يا ابو السّلم كان الداية بتظل عندنا على طول الشهر ، بسيطة انتظرني قليلاً حتى البس ، واطمّن ما يكون لك فكر إن شاء الله حتولد وتقوم بالسلامة هي والوليد ". ولما وصل خليل وجد العنزة مستلقية في الحوش على جنبها وتفرد أرجلها على الأرض وتعاني من آلام الطلق ، ولاحظ دهشة وحيرة على ام سليم وآمنة ، وقد امتلأت أعينهن بالدموع ، ويرفعن أكفهن للسماء ويتمتمن بالدعاء. فجلس بقرب العنزة وأخذ يدلك بطنها من الأمام الى الخلف باتجاه الرحم ليساعدها في دفع الجنين للخروج ، وكان زمعي الجنين (أطراف قدميه الأماميتين – الأظلاف) بارزان من الرحم ، فقالت له أم آمنة "أسخن المية يا بنيي" ، فضحك خليل وقال "ما إلو لزوم يا خالتي" ، وظل يساعد العنزة في طلقها حتى خرج رأس الوليد من الرحم ، فقام وسحب الجنين مرة واحدة ووضعه أمام رأس العنزة التي بادرت فوراً بتنظيفة من مخلفات الولادة بلسانها ، وهنا انفرجت أسارير العائلة معبرين عن فرحتهم بالولادة ، ولكن خليل فحص العنزة فوجد في بطنها جنيناً آخر ينتظر الخروج ، وقال لهم : إنها حامل بتوأم ، وتمت ولادة الجنين الآخر بإشراف خليل وكانت أسهل من الولادة الآولى ، وولدت العنزة أولاً سخلاً وثانياً سخلة ، لقد كانا وليدين جميلين ، لونهما أحمر ، وكانت في وسط جبين السخلة بقعة بيضاء وعلى أذنيها نقط بيضاء كذلك أضفت عليها جمالاً متميزاً عن السخل. وبعد تنظيفهما من قبل الأم بدأ الوليدان يحاولان القيام والبحث عن ضرع امهما لسد جوعهما من المعاناة والتعب أثناء الولادة في رحلة قدومهما للدنيا ، وقال خليل ممازحاً ، "مبروك ما أجاكم. ايش حتسموهم " فردت آمنة بفرحة غامرة "سمير وسميرة" وضحك الجميع ، وعبرت العائلة عن شكرها لخليل الذي طلب منهم قِدْراً فارغاً ليخفف من ضرع العنزة الممتليء بالحليب والذي زاد عن حاجة الوليدين بعد إرضاعهما من حليب اللباء ، وقال لهم " سبحان الله في خلقه ، إن هذا الحليب مركز وفيه قوة وطاقة ومناعة للجسم ، وهو حليب استثنائي يستمر ليوم أو يومين ليمنح الأجنة مقاومة وقوة حتى تبلغ أشدها وتستطيع المشي. وعلمهم على طريقة عمل الحثيمة من هذا الحليب الإستثنائي. وطلبت آمنة وكذلك سليم من خليل أن يعلمهما على طريقة حلْب العنزة واستجاب بترحاب لهما. وقبل أن يغادر نصحهم بتفصيل وخياطة خريطة من القماش لضرع العنزة مع رباط متصل بالخريطة ويربط طرفيه على مؤخرة ظهر العنزة وذلك لتغطية ضرعها ولتثبيت الغطاء خوفاً من العين والحسد ولتقنين رضاعة الوليدين بوجبات منتظمة من الضرع ، ومن أجل الحصول على الحليب الزائد عن حاجتهما للعائلة. وسألته أم آمنة ، ماذا سنطعمها يابني بعد الولادة ، فقال لها " عادي يا خالتي شعير وحشيش من حولين الدار".
    شارف فصل الربيع على الإنتهاء واقترب العام الدراسي من الإنقضاء ، وكان خليل متفوقاً بدراسته ، وطلبت ادارة المدرسة من المدرسين والطلبة إقامة حفل قبل انتهاء العام الدراسي ، وأشرف على الحفل مربي الفصل والذي كان يحب خليل لنباهته وتفوقه بالدراسة. فعهد الى خليل عرافة الحفل والتحضير معه لفقرات الحفل. وبدأ خليل يحضر لفقرات الحفل مع استاذه مستلهماً مواضيعها من واقع بلده وقضية وطنه ، ولم يغب عن ذهنه معاناة شعبه وقضيته الوطنية وخاصة قصة ابي سليم مع الفرسان وإهانته وما كانت تعانيه القرية من افتراء وظلم من قبل الفرسان ، فاقترح فقرات وطنية تعبر عن معاناة اللاجئين وكيف تم ترحيلهم عن ديارهم ، وعن كبت الناس ومنعهم من إظهار مشاعرهم الوطنية بصراحة من قبل السلطات الحاكمة في الدول العربية ، وعدم التحضير من الحكومات العربية لمعركة تحرير فلسطين ، وحضر كلمات ليلقيها بين الفقرات تبث الروح الوطنية وتذكر الناس بقضيتهم الوطنية وقوميتهم العربية وتدعو للوحدة العربية من أجل فلسطين ، واستوحى فقرات الحفل في معظمها من شعوره الوطني المتدفق في عروقه ومن حبه الذي يعشعش في فؤاده ، كيف لا وهو يعشق فتاة لاجئة شاهدت بأم عينها مقتل أقرانها يوم أن اقتحمت عصابات الصهاينة بلدتها وطردتهم منها. وأوشك الحفل على الإقتراب وتمت دعوة الأهالي من قرية ترقوميا والقري المشتركة معها بالمدرسة ، وتمت دعوة قائد المخفر وحاشيته ببلدة ترقوميا من قبل مدير المدرسة.
    وبعد الحفل كانت المعاناة الآولى لخليل لقاء تعبيره عن مشاعره الوطنية ، فلم يستمع لنصيحة استاذه بعدم المجاهرة والإبتعاد عن إثارة مشاعر السلطة الممثلة بالفرسان وشطب بعض العيارات ، وزاد على ذلك وخرج عن النص المكتوب ، وألقى كلمات وأشعاراً بين الفقرات ألهبت مشاعر الحاضرين من الطلبة وأهاليهم ومن وجوه القرى المجاورة ولاقت التصفيق والترحيب ، واندفع في التعبير عن دواخله بدون حساب وبدون قيد أو رقيب ، وسبب ذلك حرجاً وقلقاً ومساءلة لإدارة المدرسة أمام قائد المخفر ورجاله الحاضرين للحفل بالرغم من الإشادة والتبجيل برمز السلطة ورأسها وتوجيه التحية له والوقوف للسلام الوطني من الجميع في بداية الحفل.
    في صبيحة اليوم التالي للحفل أرسل مدير المدرسة لخليل في الحصة الآولى يناديه من الفصل وقال له في غرفة الرياضة على انفراد : يا بني أنت في فورة الشباب ، وأمامك مستقبل جيد لأنك متفوق في دراستك ، ونحن نكن نفس المشاعر الوطنية التي تكنها ، ولكننا ملتزمون بعائلاتنا وأمامنا مسئوليات جسام كما أمامك مستقبل مشرق يحتاج الى التقية والإستعانة بالسرية والكتمان لقضاء الحوائج ، ولا نستطيع الإلتزام بمسئولياتنا بمناطحة السلطة الحاكمة ومجاهرتها بالكلام الذي لا يخدم في نهاية المطاف ولا يعطي المردود المرتجى منه ، ولا نقدر على التعرض لها بالنقد حالنا كالكف الذي يناطح المخرز ، وأنا بصراحة خائف عليك ولن تمر فعلتك بدون عقاب ، وحاولت جهدي مع قائد المخفر أن يتسامح معك ورجوته على أن لا يوصل قضيتك لسلطات أعلى فتضيع عليك المدرسة بعد أن حرمت منها وترمى بالسجن على أن لا تعيد ذلك مرة أخرى ، فقد أرسل الي يطلبك في المخفر لإجراء تحقيق معك ليوم وليلة وحجزك عندهم على ذمة التحقيق لقرص أذنك. ووعدني رئيس المخفر بعدم رفع قضيتك لمستويات أعلى وأنصحك بالإعتذار له وأن تعده بالإلتزام وعدم النقد والتهجم على السلطة مرة ثانية. وكان الله في عونك على هذه الليلة ، إذهب اليهم برفقة الشرطيين اللذين ينتظرانك في غرفة الإدارة.
    ذهب خليل برفقة المدير الى غرفة الإدارة ، فإذا بشرطي منهما بشريطة يحمل كلبشة ، وقام بتقييد يدي خليل أمام المدرسين والطلبة واصطحبه مع زميله الآخر ذي الثلاثة شرائط الى مقر المخفر القريب من المدرسة. وكانت ليلة ليلاء ، لا ولن تنسى أو تمسح من ذاكرة خليل مما لاقاه من ضرب وشتم وإهانة ، فتلون جسده وقدميه باللون الأزرق من السياط ، وقضى الليلة في اسطبل الخيول واقفاً يشتم روثها ويتقي رفسها ، وفي الصباح طلبوا منه تنظيف الإسطبل من تحت الخيول ، ولما لم يعد في موعده الى المدرسة وتحت ضغط ام خليل على ابي خليل ركب ابو خليل حماره قبيل الغروب متوجها الى قرية ترقوميا للسؤال والبحث عن ولده. حيث لم يعد رحلات للباص بين القرى ، وطلب منه قائد المخفر أن يأتي باليوم التالي ليكتب عليه كفالة يتعهد فيها بكفالة ولده بعدم تكرار ما حدث ، ويتحمل نتائج ما سيبصم عليه. ورجع ابو خليل في صبيحة اليوم التالي ، وظل ينتظر طيلة اليوم بالمخفر لمقابلة مدير المخفر والتوقيع على الكفالة واستلام ولده ، وعاد خليل مع والده الى قريته بحلول غروب اليوم التالي خالي المعدة وراكباً على الحمار لعدم قدرته على المشي نظراً لتورم قدميه من الجلد بالسياط والقنوة. وغاب عن المدرسة يومين كاملين وكانت والدته تضع له الكمادات على مواقع الضرب والتورم وتدهن جسده بالزيت وتغسل مواقع الضرب بالماء والملح والأعشاب /*/*/*ّ ساق نبات الخرفيش بعد تقشيره وألواح الصبر المقشرة والمنزوعة أشواكها لتوضع عليها لتمتص الألم بناءً على وصفة حلاق القرية. وقام أبو خليل بعمل مأدبة غداءٍ من المناسف لفرسان بلدة ترقوميا وفرسان قريته وذلك مكافأة لهم على عدم تصعيد الموضوع للسلطات العليا بالخليل.
    وعلمت القرية بما جرى لخليل ، وكانت آمنة أشد الناس غضباً وتعاطفاً مع خليل ، وزاره ابوسليم وسليم في البيت للإطمئنان عليه ولمواساته. وعاد الى دراسته من جديد مستفيداً من الدرس ومتقياً الله في نفسه وفي تحصيله العلمي. وكابتاً لكثير من المشاعر تجاه قضيته وشعبه وكاظماً لغيظه وشاداً على جرحه لكي يوفر مزيداً من النزف والخسارة. وانكب على دراسة تاريخ فلسطين منذ العصور القديمة وحتى يومنا هذا ودراسة تاريخ الحركة الصهيونية وعلى دراسة مسيرة القضية وتطوراتها منذ وعد بلفور المشئوم مستعرضاً هبّة الشعب وثوراته المتسلسلة منذ بواكير القضية ولما تعرض له وطنه من مؤامرات دولية أجهضت ثورات الشعب ، وباحثاً عن أسباب الإنكفاء ومحاولات إطفاء نار الثورة على المحتلين الغاصبين وذلك في سبيل تلمس الطريق الصحيح الذي يمكنه من القيام بواجباته الوطنية تجاه قضية شعبه ووطنه. وكان يقرأ ما يتاح له من كتب مسموحة وكتب ممنوعة يحصل عليها بسرية ، ويتابع ما يصدر من مناشير وبيانات عن الأحزاب العاملة في الساحة ويستمع الى الإذاعات العربية وخاصة اذاعة صوت العرب بسرية معتادة ونقاشات رجال القرية حول القضية. وكان كثيراً ما يجالس ابا سليم ليستمع منه عن قصة الثورة وقصة التهجير وقصص الثوار سيما وأن شقيق ابي سليم كان من قادة ثورة 1936م واستشهد في أحد معارك تلك الثورة.
    مع قدوم غرة صيف عام 1961م (شهر حزيران) ، كان قد انتهى العام الدراسي بتفوق خليل بامتياز ونجاح آمنة بتقدير جيد ، فاختار خليل الفرع العلمي بينما اختارت آمنة الفرع الأدبي ، وانتقل خليل الى المدرسة الثانوية بالخليل "مدرسة الحسين بن علي الثانوية" وانتقل سليم مباشرة بعد اتمامه الصف الثالث اعدادي بالقرية لنفس المدرسة التي يدرس بها خليل بدلاً من مدرسة ترقوميا ليرافق أخته في رحلتها اليومية للدراسة في الخليل. وبدأت العطلة الصيفية للمدارس ، وكان اللقاء الأول بالكرم بين آمنة وخليل كما تعودا على اللقاءات سابقاً. وكان حديثاً مطولاً بينهما عن أسرة آمنة وعائلتها التي تشتت في نواحي الأرض. وحديثاً آخر كان وداعياً ومفاجئاً لخليل وقع عليه كالصاعقة لأنه سيسبق فراقاً قصيراً بعمر الزمان ولكنه كان في نظرهما طويلاً طويلاً وفي وقتٍ متاحٍ للقاءات التي طالما ينتظرانها بعد شتاءٍ بارد وبيات طويل وسيحرمها منها وذلك لإعادة بعث الروح والدفء في علاقتهما. وكان هذا الفراق الطاريء منعرجاً وتحولاً في مخططاته لقضاء العطلة الصيفية.

    يتبع الجزء الحادي عشر

    بقلم أحمد ابراهيم الحاج
    5/10/2009م
    اياد النمراوي
    اياد النمراوي

    { مشرف }


    آمنة  و خليل/الجزء العاشر Stars15


    الجنس : ذكر
    البرج : الجدي
    عدد المشاركات : 2028
    العمر : 46
    البلد : الاردن
    نقاط النشاط : 982
    الاعجاب : 7
    المهنة : آمنة  و خليل/الجزء العاشر Accoun10
    الدوله : فلسطين

    البطاقة الشخصية
    my sms:

    آمنة  و خليل/الجزء العاشر Empty رد: آمنة و خليل/الجزء العاشر

    مُساهمة من طرف اياد النمراوي السبت 5 مارس 2011 - 11:20

    مشكور

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد 19 مايو 2024 - 13:02