منتديات خاراس الرسمية

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    الأستاذ حمدان وعقيلته حنان/الجزء الأول

    أحمد ابراهيم الحاج
    أحمد ابراهيم الحاج

    {{ كبار الشخصيات }}


    {{ كبار الشخصيات }}


    الجنس : ذكر
    البرج : الحمل
    عدد المشاركات : 231
    العمر : 72
    البلد : فلسطين - خاراس
    نقاط النشاط : 204
    الاعجاب : 4
    الدوله : فلسطين

    الأستاذ حمدان وعقيلته حنان/الجزء الأول Empty الأستاذ حمدان وعقيلته حنان/الجزء الأول

    مُساهمة من طرف أحمد ابراهيم الحاج السبت 1 يناير 2011 - 7:49

    الأستاذ حمدان وعقيلته حنان (الجزء الأول)
    في الإغتراب ، ولواعج الغربة ، وظلم ذوي القربى
    ..............................................................
    حالات من الإغتراب على أجزاء (النموذج الأول)
    .............................................................
    في بداية الستينيات من القرن الماضي تخرج حمدان من الثانوية العامة بمعدل متواضع، وتقدم بطلب للجامعة وقبل في كلية الآداب قسم التاريخ والآثار، وبعد دراسة أربع سنوات تخرج من الجامعة الأردنية ، وبدأ رحلة البحث عن العمل ، ليرد الدين الذي تكبده والده في سبيل أن يكمل دراسته ، وليساهم في تعليم إخوته من بعده ، وليعمل على تنمية العائلة إقتصادياً وتعليمياً ، وكان الخريجون من هذا التخصص يعانون كثيراً نظراً لقلة الطلب عليهم ولكثرتهم ، فلم يجد في موطنه عملاً ، لذلك طاف حمدان البلدان العربية بحثاً عن عمل ، وقدم لبعثات دول الخليج العربي التعليمية في عمان ، وأكمل حمدان رحلته الى سوريا ولبنان وقدم طلبات العمل لبعثات التعليم القادمة من ليبيا واليمن والجزائر والمغرب وعاد الى عمان ينتظر الردود ، وكان حمدان يستيقظ صباحاً ويفطر زيتاً وزيتوناً أحضره معه من فلسطين مع كسرة خبز وكوباً من الشاي ، ويشتري الجريدة لعله يجد اسمه من المطلوبين لبعثات التعليم ، ويتغدى على صحن من الحمص تارة وصحناً من الفول تارة أخرى ، ويسكن عند أخته المتزوجة من رجل يعمل في عمان ، وأخيراً جاءه الخبر اليقين ، لقد وجد اسمه مطلوباً لبعثة التعليم السعودية ، فجهز أوراقه للمقابلة الا ورقة واحدة هي شهادة حسن السلوك من المخابرات العامة لم تصدر بعد على الرغم من طلبها في وقت مبكرمع شهادة عدم المحكومية من الأمن العام. فقد قدم لهاتين الشهادتين منذ تخرجه ، وحصل على شهادة عدم المحكومية لأنه لم يحكم عليه في أية عقوبة ، واجتاز حمدان المقابلة وأكدت عليه البعثة ضرورة الحصول على شهادة حسن السلوك كمتطلب إجباري للسفر وإلا فإن العقد سيعتبر لاغياً ، وكان حمدان يراجع المخابرات العامة يومياً من الساعة الثامنة صباحاً وحتى الساعة الثانية ظهراً ينتظر سماع اسمه عند توزيع الشهادات ، وقبل موعد مراجعة البعثة للسفر بيومين سمع حمدان اسمه من بين الحاصلين على الشهادة ، فاستلمها وطار فرحاً بها ، لقد تحقق الحلم ، وأبرق لأهله في إحدى قرى فلسطين (الضفة الغربية) يخبرهم بالخبر السعيد ، وللتو خرج والده ووالدته من الضفة الغربية الى عمان ليودعوا ابنهم ، وكانوا يحملون الوصايا والتحايا من الأخوة والأخوات والعمات والخالات والأعمام والأخوال والأقارب والجيران ، فقد علمت القرية كلها بخبر تعاقده للتدريس في السعودية ، وكان الرأي العام في القرية يقول لقد فتح الله عليه وعلى والديه وكل عائلته ، لقد ذهب الى حقول الذهب الأسود ، وسوف يخرج عائلته من ظلمات الفقر الى أنوار الغنى والرفاهية ، الله يطعمنا يا رب. راجع حمدان مقر البعثة السعودية وسلمهم شهادة حسن السلوك وأخبروه بأن راتبه 600 ريالاً سعودياً ، وأن مكان عمله سيكون في منطقة جيزان وكان راتبه يعادل خمسين ديناراً أردنياً حيث كان معدل راتب المدرس في عمان في حدود العشرين دينار.
    حان موعد السفر ، واتجه حمدان الى مطار ماركا ومعه والديه وأقاربه ممن يعملون في عمان ويسكنون بها ، لقد كان حشداً وداعياً يليق بالزعماء ، فكل من كان لا يتواصل مع العائلة من أهل البلد أصبح الصديق الوفي والمخلص لها ، كيف لا وابن العائلة مرشح ليصبح من أثرياء القرية. ونادى المنادي على المسافرين الى الرياض التوجه لقاعة السفر ، وبدأت حفلة الوداع ، وكان كل شخص يودعه يهمس في أذنه لا تنسانا يا حمدان إنت بتعرف قديش معزتك عندنا ، الى أن جاء الدور ليودع والديه ، فقال له والده دير بالك يا إبني ، إشقح (اجرح) كفك وخبي قرشك فيه يابا ، وراك مسئولية كبيرة ، الله يوفقك ويفرجينا وجهك على خير ، وحضنته أمه ودموعها مسترسلة عل خديها قائلة :أي هو كان ضروري تسافر يا حبيبي ، ما كنا عايشين ومستورين وانت بينا مطمنين عليك ، لكن ما بقول الا " الله يسهل عليك يمه ، ويفتح لك من كل ضيق باب طريق ويبعثلك أولاد الحلال ويبعد عنك أولاد الحرام. دير بالك على حالك ولا تنسانا بالمكاتيب ، فشعر حمدان من ضمة أمه وحضنها له بصعوبة الموقف ، وبدأت أول حلقة من حلقات لواعج الغربة تلفح قلبه بحرارتها ، فعصرته وبدأ ينزف ماءً تدفق من ثقوب وجهه ، فاغرورقت عيناه بالدموع وسمع والده يقول له "إجمد يا ولد ، خليك زلمه لا تخلي الناس يشوفوا دموعك إنت اليوم رجل يا حمدان". وقال حمدان لوالدته "ايش بتوصيني يمه ، ايش اجيبلك من السعودية فردت عليه " والله يا يمه ما بدي اشي ، ما بدي الا سلامتك وترجع سالم غانم ودير بالك على صلاتك ، وخليك مع ربنا من شان يكون معاك ويحميك. وأدار حمدان ظهره وبدأ رحلة الإغتراب ، وقد التفت صوب أمه ثلاث مرات ، وصوب ابيه مرة واحدة طيلة مسيرته لقاعة السفر. واختفى حمدان عن الأنظار وقفلت حملة الوداع راجعة ، وما زالت أم حمدان تذرف دموع الفراق طيلة طريق العودة لفلسطين.
    صعد حمدان للطائرة وجلس بجانب الشباك ، وكانت المرة الآولى التي يركب فيها الطائرة ، وجلس بجانبه مسافر سعودي في مرحلة الكهولة كان يصطاف بالأردن ، وأخذ حمدان يستعرض المناظر من الجو سارحاً تارة في ذكريات الماضي وتارة أخرى في خيالات المستقبل ، وبادره المسافر السعودي بالسؤال : إنت تشتغل بالسعودية ، فرد عليه حمدان : أنا مسافر لأول مرة من أجل العمل بالسعودية ، فسأله السعودي : وماذا ستعمل هناك ، فأجابه حمدان : مدرس ، فقال السعودي : والله ياهلا ويا رحب ، أنا درسني استاذ من جماعتكم ، لكن وين رح تدرس ، فقال حمدان في منطقة جيزان ، فقال السعودي : جيزان ، الله يعينك ، فسأله حمدان : ليش يا شيخ قلت الله يعيني ، فقال له السعودي هذي جيزان بعيدة كثير في جنوب المملكة على حدود اليمن ، وما فيها تطوير بعد ، وعايشين بدون مكيفات ، ما بدي أخوفك لكن بتعيش مثلك مثلهم. وفي هذه اللحظات أحضرت المضيفة الوجبة التي تقدمها الخطوط الجوية لركابها فانقطع الحديث بينهما وتمنى حمدان في نفسه ألاّ يحدثه السعودي مرة أخرى عن جيزان بالذات ولكي لا يعكر صفوة خيال شاب تخرج من الجامعة ويطمح لعمل يلائم دراسته . وبعد أن أكمل الركاب تناول الطعام ، التفت اليه السعودي وقال : إنت أردني أردني والا فلسطيني أردني ، فرد حمدان : أنا فلسطيني أردني يا عم ، وهنا قال السعودي : الله يحييك والله جدي كان يعمل في فلسطين ، وقال لي جدي بأنهم كانوا يجهزوا القوافل لجلب الحجاج من فلسطين الى الحجاز وإعادتهم لفلسطين بعد أداء الحج ، وقال لي جدي أيضاً بأن فلسطين بلد خير وجمال ومويه وبحار وأزهار، هل تعلم يا حمدان كم كان يدفع الحاج من فلسطين لقاء جلبه منها وإعادته اليها ، فرد حمدان والله صعب أقدِّر لأني ما حضرت هالأيام يا عم ، فقال له كانت أجرة الحاج الواحد ذهاباً وإياباً لفلسطين ريالاً واحداً فقط ، وكانوا يجلبون الهدايا من فلسطين ، البرتقال والزيت والزيتون. الله يارب يحرر بلادكم ويعيد أهلها إلها لأنها مقدسة مثل بلادنا والله بنستدعي إلكم في كل صلاة ربنا ينصركم وينصر الإسلام والمسلمين وقلوبنا معاكم.
    ودخلت الطائرة موغلة في الأجواء السعودية الممتدة العميقة ، وراح حمدان يستعرض كثبان الرمل التي تخلو من الزرع والشجر ويستعرض الغيوم المبعثرة التي تعتليها الطائرة الى أن حطت الطائرة بمطار الرياض. ووجد حمدان في استقباله مندوباً عن مديرية التعليم بالمنطقة ، وصحبه الى سكن خاص بالمتعاقدين ، وتناول العشاء معه ، وأخبره أن يكون جاهزاً غداً للبدء في رحلة برية طويلة تصل الى ألفي كيلومتر للوصول الى جيزان حيث سيعمل حمدان. وخرج حمدان يستعرض الشارع الذي يسكن به عند صلاة العشاء ، وإذا بسيارة تصطف بقربه ، ونهر عليه رجل ملتح (شيخ) قائلاً له : إنت يا ولد ، ليش ما تصلي ما انت سامع الصلاة بالمسجد ، إطلع بالسيارة إطلع بسرعة ، وقال له حمدان بتوسل: أنا يا شيخ واصل البلد لأول مرة اليوم ، وما بعرف بالنظام ، لكن أنا بصلي بس ما معي وضوء ، فقال له الشيخ: إطلع بتتوضأ عندنا في مقر الهيئة ، فقال حمدان : يا سيدي الشيخ إذا رحت من هالمكان ما بعرف أرجع أنا غشيم بالأماكن وبكرة عندي سفر لجيزان لأعمل مدرساً هناك ، فقال له الشيخ : طيب كم ركعة صلاة المغرب ، فقال له حمدان ثلاثة فرض وثنتين سنة ، فقال له الشيخ : المرة سامحناك لكن لا تعيدها مرة ثانية بعدين بنحلق شعرك.
    وكانت رحلة شاقة وطويلة الى جيزان في سيارة غير مكيفة ، لم يتوقع حمدان حرارة الجو في السعودية ، كان يسمع به سمعاً ويعتقد أن الناس كانوا يبالغون في ذلك ، ولكنه اكتشف أنهم كانوا ربما يلامسون دائرة الواقع على خط المحيط فقط ولا يدخلون لمركزها أو يقتربون منه. شعر حمدان بالعرق يتسرب في ثنايا جسمه من الرأس الى أخمص القدم ، وشعر بضيق النفس وبضغط على قفصه الصدري من كتمة المناخ ، وكان طيلة الطريق يشرب الماء بنهم حتى أجهز عليه ، وطال عليه الطريق للوصول الى مصدر المياه ، شعر بالصداع الشديد نتيجة لفقدان السوائل بالتعرق ، وكان يبدي للسعودي استغرابه من عدم تأثره (السعودي) بحرارة الجو ، ولصبره على الحر ومقاومته لحرارة الشمس الحارقة ومن العطش الشديد الذي كان يشعر به حمدان ولا يقوى عليه. فقال له زميله السعودي وكان يدعى مشبِّب : بكره يا حمدان بتتعود لا تخاف ، إحنا بشهر سبتمبر يعني الجو ألطف بكثير من الشهر الماضي واليّ قبله ، فصاح حمدان : كمان في أكثر من هالحر ، فقال مشبب طبعاً شهر أوجست وجولاي نار ، هذا الجو نعمة قياساً بالجو حتى في شهر حزيران. وكان يهرب حمدان من معاناة العطش والحر ويسرح بناظريه على جوانب الطريق فتزيده تشاؤماً وإحباطاً ، كان يرى سحابات الغبار المتطاير من كثبان الرمال كغيوم الشؤم في يوم شتوي عاقر ، وكانت عيناه لا تقعان على منظر للشجر والزرع ، بل على جبالٍ كالحة وسوداء ،ورمالٍ متحركة ، ونباتات شوكية مكفهرة ، وكلاب وذئابٍ وحميرٍ ضالة قد دهستها السيارات المارة وجثثها ملقاة على قارعة الطريق ، وزواحف بلون الطبيعة تجتاز الشارع مسرعة، وهنا تذكر حمدان الجو في قريته بفلسطين وتذكر مناظر البساتين والحقول والأزهار وأطلق تنهيدة من أعماق صدره وأغوار بطنه ، وكظم غيظه وتذكر والديه وإخوانه وحاجتهم له وتناسى كل كدر ويأس وإحباط وحال دونهم ومنعهم من المرور والتسرب لداخله ليقوى على مقاومة غضب الصحراء وقساوتها في زمان الغربة القادم.
    وصل حمدان الى القرية التي سيدرس بمدرستها ، وهي قرية نائية عن مركز المدينة ، لا توجد بها خدمات الكهرباء والماء ، بها بقالة لا تجلب الا احتياجات اهل القرية الضرورية التي لا تفسد من الحرارة ، فقال له مشبب إن في المدرسة مدرس فلسطيني يسكن هنا لوحده ، ما رأيك أن تراه وتسكن معه ، وهنا انفرجت أساريره قليلاً وأثنى على الفكرة وتمنى أن تنفذ فوراً ، وأوصله مشبب الى سكن زميله في المدرسة لينام تلك الليلة عنده ، وكانت هي غرفة واحدة للنوم وللجلوس ولكل الأغراض ، بها بابور كاز وطشت كبير للحمام وخزان مياه صغير وفانوس يعمل على الكاز وأكياس من الخيش لتبريد الغرفة وحفظ الأشياء بها لكي لا تفسد برشها بالماء، وأرضية الغرفة محفرة ، وبجانبها حمام من الزينكو وحفرة صغيرة بالحمام للتصريف ويحفها حجرين للجلوس ، نادى مشبب يا أستاذ سعيد ، استاذ سعيد ، وخرج اليهما سعيد وهو يرتدي ثوباً فضفاضاً يمسح عرقه المتصبب من جبينه ، هلا يا مشبب تفضل سليني شوية ، فقال له مشبب : جئتك بمن سيسليك على طول ، ولمح سعيد حمدان الذي يقدم خطوة ويؤخر الأخرى به خوف وتردد وبادٍ عليه يصارع القنوط والأحباط ، وكأنه قد بعث اليه من رحْماء السماء ، واحتضنه بدموع الغربة ودموع الفرح بقدوم من سيتقاسم هموم الغربة معه ويحمل عنه جزءاً من حمله الثقيل في الغربة القاسية الموحشة. وسلم الإثنان في ما بينهما كسلام العزاء وسلام الفرح ، فكل واحد منهما شعر بالإلفة لزميله ، فسلم عليه سلام الفرح ، وكل واحد منهما تجتاحه هموم الغربة ولواعجها وآلامها القاسية فسلم على الآخر وكأنه يعزيه في فقد عزيز عليه ، وهل هنالك من هو أعز من الأوطان والأهل والأقارب. وصدق شوقي حين قال:
    وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني اليه في الخلد نفسي
    فما بالك أن يغترب الإنسان في بقعة صحراوية قاحلة ونائية ومعزولة يقارع فيها قسوة المناخ ومرارة العزلة وصعوبة الحياة وزواحف الصحراء وأشواك نباتاتها. سوف تنازعه نفسه في اليوم مئة ألف مرة وليس مرة واحدة.
    حضَّر سعيد العشاء من بقايا ما أحضره معه من زيت وزيتون ، ومن بعض المعلبات التي يجلبها من البقالة وقلى بيضتين على نار البابور ، وأخرج من الخيش رغيفين من الخبز الذي يحفظ فيه ، وتناولا العشاء معاً ، وجهزا ابريقاً من الشاي وبدأ حمدان بالسؤال عن المدرسة وأحوال المعيشة في القرية. فقال سعيد : مدير المدرسة يحمل الإبتدائية وعقلاتو على قدو يا ابو الشباب بدك تراعي مشاعرو ، وبحب دايماً تنفخو وتناديه يا أستاذ وتظهر إلو الطاعة في كل الأمور ، أما التلاميذ يا عيني عليهم ، في منهم أكبر منك بالسن وبدك تدير بالك على حالك وعلى شرفك ، ومزاجيين وبتأخروا كثير عن المدرسة ، ودايماً في بينهم مشاكل وبتقاتلوا بالفصول وإذا حجزت بينهم رح ينولك اليّ في النصيب يعني كأنهم فصل محو أمية ، وبدك تدرِّس أي مادة حساب ودين وعربي يعني بدك تكون بتاع كلّو . وأهل البلد طيبين بحبوا المدرسين بس إمكانياتهم محدودة وثقافتهم طبعاً متأخرة بدك تراعيهم وتتحمل بعض التصرفات غير المقصودة من بعض الجهلة. وبدك تدير بالك من العقارب يا حمدان وخاصة قبل النوم ، فقال حمدان : يا خسارة ، يعني تعبنا ودرسنا وكملنا تعليمنا وكلّفنا أهالينا وحملناهم الديون من شان نتقدم والا نتأخر يا ابو الشباب ، أنا شايف إنا إحنا هنا بعيدين عن الحضارة والتقدم ومطمورين تحت الأرض ومعزولين عن العالم. وهنا أخرج سعيد سيجارة وعزم على حمدان قائلاً له إنسَ يا راجل ، فقال حمدان أنا لا أدخن ، فقال سعيد : حتماً ستدخن إن بقيت هنا ، شاركني التدخين فأنا مثلك كنت لا أدخن ووجدتني مدفوعاً بقوة للتدخين وأصبحت مدخناً مُرّاً وشرهاً. وبالفعل كانت هنالك رغبة من حمدان في التدخين ، وبدأ مشواره مع التدخين والنيكوتين منذ تلك اللحظة وأصبح مدخناً شرهاً.
    في الصباح استيقظ حمدان مبكراً ولم ينم الاّ لحظات متقطعة قليلة ، وقد لاقى صعوبة في النوم لتغير المكان ولظروف الغرفة الحرجة من الحر والفوضى والغبار ، وأصوات الزواحف وخاصة أم بريص التي كانت تقطن في جدار الغرفة هي وعائلتها ، وصوت الناموس والصراصير وعواء الذئاب من بعيد والكلاب من قريب ، لبس بنطالاً وقميصاً ، وأراد أن يحلق لحيته ، فقال له سعيد : منذ الآن أنصحك يا حمدان أن تطلق لحيتك وأن تشتري ثوبا لتذهب به الى المدرسة لكي لا ينظر اليك نظرة ارتياب وعدم راحة من أهل القرية وتلاميذها وبصراحة لترتاح من حلق اللحية في هذه الظروف الصعبة التي تراها ومن غسيل وكوي البنطلونات والقمصان. كل يوم بتمسح وجهك بالمية وبتحط هالثوب بسرعة وبتتوكل للمدرسة. وعمل حمدان بالنصيحة مكرهاً. وفي أحد الليالي نفذ منهما الدخان، فقررا الذهاب للبلدة المجاورة لشراء السجائر حيث أن صاحب بقالة الهجرة أو القرية لا يبيع الدخان. وبينما هما سائران يتحدثان فوجئا بحجارة تقذف نحوهم من سفح الجبل فنظرا الى مصدر الحجارة فإذا هو سرب من القردة يقصفهم ويتجه نحوهم، فأسرعا الخطا يركضان بأقصى ما لديهما من سرعة، والقردة تصيح بأصواتها تتبعهم. ولكن الله سلم ولم تستطع اللحاق بهم. وبعد أن وصلا البلدة اشتريا السجائر وأويا الى مسجد القرية وناما به خوفاً من العودة. وقاما عند صلاة الفجر وأديا الصلاة وسط نظرة استغراب من المصلين نظراً لعدم معرفتهم، وبعد ذلك توجها للمدرسة.
    وبعد مرور شهر تلقى سعيد الذي قضى في هذه المدرسة النائية خمس سنوات نقلاً الى مدرسة متوسطة في بلدة الخرج جنوب الرياض وتبعد عنها حوالي ثمانين كيلومتر. وكان وقع الخبر بمثابة وقع الصاعقة على حمدان ، لكنه كظم غيظه وأصر على أن يعيش ويقاوم مهما كانت الظروف لكي يفي بواجباته تجاه اسرته. فسوف يكمل شقيقه حسن الثانوية العامة في هذا العام ، ومن المتوقع أن يحصل على معدل يؤهله لدراسة الطب ، وكان ذلك حلم الأسرة أن يكون فيها طبيب ومهندس ، وتلك هي أحلام كل اسرة فلسطينية في ذاك الزمان.
    قضى حمدان السنة الآولى في المدرسة ، وحان موعد العطلة الصيفية ، وسافر الى فلسطين لقضاء العطلة ، وقبل السفر كان قد اشترى الهدايا لمعظم الأقارب والجيران والأحباب والأصحاب. وقليل منهم ارتضى بالهدية وعلى رأسهم والديه ، والكثر منهم منهم استخف بقيمتها واستغابه وتحدث سوءاً عنه أمام الناس ، ومنهم من اتخذ موقفاً ضده وخاصة من أقاربه لعدم اقتناعه بالهدية أو لنسيانه من حمدان يوم ان اشترى الهدايا. وتحول الشوق لحمدان الى عدم المبالاة به وامتد احياناً الى الخصام معه وتمادى البعض بالكره والحسد له. ووقعت حرب حزيران 1967 ، وتأخر حمدان عن العام الدراسي القادم ، ولكنه التحق بالمدرسة وقدرت وزارة المعارف السعودية ظروف كل الفلسطينيين واعتبرتهم على رأس العمل وصرفت لهم رواتبهم عند عودتهم المتأخرة.
    يتبع الجزء الثاني
    بقلم أحمد الحاج

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة 17 مايو 2024 - 10:34