منتديات خاراس الرسمية

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

2 مشترك

    آمنة و خليل/الجزء الخامس عشر

    أحمد ابراهيم الحاج
    أحمد ابراهيم الحاج

    {{ كبار الشخصيات }}


    {{ كبار الشخصيات }}


    الجنس : ذكر
    البرج : الحمل
    عدد المشاركات : 231
    العمر : 72
    البلد : فلسطين - خاراس
    نقاط النشاط : 204
    الاعجاب : 4
    الدوله : فلسطين

    آمنة  و خليل/الجزء الخامس عشر Empty آمنة و خليل/الجزء الخامس عشر

    مُساهمة من طرف أحمد ابراهيم الحاج السبت 12 مارس 2011 - 8:43

    آمنة وخليل
    الجزء الخامس عشر
    ............................................
    انتقل خليل وآمنة الى الثانوية العامة (التوجيهي) في العام الدراسي 1962 – 1963م ، وفتحت المدارس أبوابها لاستقبال الطلبة ، وعاش خليل فترة من البيات الشتوي السياسي بعد فصله من حزب البعث العربي الإشتراكي ، وهجرت آمنة الحزب كعضو مناصر وتابع لخليل. كان بياتاً شتوياً سياسياً على الرغم من زخامة الأحداث السياسية وتواترها والتي كانت تعج بها المنطقة العربية في ذلك العام وخاصة في العراق وسوريا ومصر والأردن والتطورات الدراماتيكية في حزبه الذي فصل منه. وعكف خليل على إعادة قراءة الخارطة السياسية في فلسطين قراءة متأنية ومعمقة ، وصار يحسب خطواته من جديد في خضم هذه المخاضات العسيرة والخلافات المستعرة بين الطوائف والأطياف السياسية العربية والتي انعكست على الساحة الشعبية الفلسطينية بكل تناقضاتها وألوانها المختلفة. ليتلمس له طريقاً نحو فلسطين التي يحلم بها وطناً للأحفاد كما كان للأجداد. طريقاً يحفل بالعمل الجاد ويخلو من الشعارات المفرغة من محتواها. وقد تلقى دعوات من زملائه في قريتهم والقرى المجاورة وفي مدينة الخليل باستمالته للحزب الشيوعي الذي نشط في تلك الآونة في فلسطين ، وحاولوا جاهدين ضمه لتنظيم الحزب الشيوعي لمعرفتهم بنشاطه وكاريزمته وحيويته وقدرته على استقطاب الأعضاء العاملين ولجديته وسريته بالعمل وقدرته على النقاش والحوار والإقناع. كان النشاط السياسي في تلك الفترة يتغلغل سرياً في فلسطين عدا حزب الإخوان المسلمين الذي كان يمارس نشاطه السياسي تحت مظلة جمعية خيرية في وضح النهار بمعرفة السلطة ، حيث التقت مصلحتهم مع مصلحة النظام الأردني في عدائهم للناصرية ، في حين كان حزب التحرير محظورا ويعمل تحت الأرض ، وكان معظم الحزبيين من أصولٍ فلاحية من الفئات المتعلمة والمثقفة من قرى فلسطين من البحر الى النهر. وكان قادة الأحزاب من طبقة الأطباء والمحامين القادرين على تحمل الأعباء المالية ، ومضايقات السلطة ، حيث كان التمويل ذاتياً من أعضاء الحزب ومن المتبرعين المناصرين ، ولقد احتل الأطباء دوراً مهماً في أحزاب الحركة الوطنية الفلسطينية وكانوا بالصف القيادي الأول مثل الدكتور جورج حبش والدكتور وديع حداد من القوميين العرب والدكتور منيف الرزاز من البعث والدكتور يعقوب زيادين من الحزب الشيوعي. وأعاد خليل قراءة الحركة الوطنية الفلسطينية ، وكان ما يحيّره العداء بين التيارات الإسلامية من جهة والتيارات القومية المعتدلة واليسارية من جهة اخرى ، وما يثير استغرابه واستهجانه سر التناحر الذاتي والعداء المستحكم بين التيارات الإسلامية (حزب الإخوان المسلمين وحزب التحرير) ، وسر التناحر الذاتي بين الأحزاب القومية واليسارية (الحزب الشيوعي وحزب البعث وحركة القوميين العرب). ووقف حائراً من جديد أمام هذه التناقضات الذاتية والفئوية بين أبناء الشعب العربي الواحد الذي تجمعه الروابط أكثر من أي أمة أخرى. روابط التاريخ المشترك وروابط الجغرافية وروابط الدين والعقيدة وروابط اللغة والثقافة. ومما دعاه للإعتكاف بعيداً عن السياسة الإحباط الذي اعتراه بعد انفصال الوحدة وانفصام الحزب الذي ولجه واختاره وفضله عن غيره من الأحزاب ، والسنة الدراسية الحاسمة في حياته ، والشراكة بين والده وابي سليم في معصرة زيتون للبلدة والبلدات المجاورة ولتقربه أكثر من حبيبته.
    كان ابو سليم والد آمنة قد لاحظ تخلفاً في طريقة عصر الزيتون عن الطرق الجديدة السائدة بالمدن، فقد كان الناس يعتمدون طريقة بدائية في عصر الزيتون ، وكانت المعصرة تسمى بدّ الزيتون أو بدّ الزيت ، وهو عبارة عن حجر كبير مقعر يسمى (القصعة) ويعلوه حجر دائري الشكل كبير الحجم كحجر الرحى (حجر الهرس) ، ويكون متصلاً بخشبة تسمى العروسة مربوطة على ظهر أو رقبة حيوان لتدويرها ، وتدار بشكل دائري حيث يقوم الدراس بنهر الحيوان بسوط ويلف حول البد. ويوضع حب الزيتون بين الحجرين ، حجر الدرس وحجر الهرس ، فيهرس الحجر الدوار حب الزيتون ويتجمع عصير الزيتون (الزيت) مع أنوية الزيتون(عجم الزيتون) المهروسة في القصعة ويسمى العجم المهروس ب (الجفت) والذي صار يستعمله الناس في الطوابين وفي المواقد أثناء فصل الشتاء.، وكان الناس يعتمدون على الخيل والبغال في إدارة حجر الهرس ، ويؤخذ الناتج بعد الهرس من القصعة بقفف أو في أكياس من الخيش أو سلال من القنّب ، ويضغط عليه بواسطة المكبس حتى ينساب الزيت الى الجرن في اسفله ويترك فترة ليتم الفصل بينه وبين الماء والشوائب الأخرى ، ثم يوضع في براميل تحتوي ماءً ساخناً ويصب الناتج على الماء الساخن ، فتترسب المواد العالقة من بقاياً الأنوية والشوائب والتي لم تنفصل بعملية العصر بالقفف ، ويطفو الزيت على وجه الماء لأنه أقل كثافة منه وتترسب بقايا وشوائب الجفت أسفل البرميل ، ويتم استخراجه بأوعية حتى الوصول الى مستوى الماء المغلي. وفي بداية موسم الزيتون كان بعض الناس يستخرجون الزيت بطريقة بدائية ليأكلوا منه أثناء انتظار دورهم لعصر زيتونهم ببدّ الزيتون، حيث يضعون حب الزيتون في مقر(غدير) وسط صخرة يجلبونها من البر الى بيوتهم أو يجلبون الصخرة ويحفرونها ، ثم يأتون بما يشبه المَرقّ الذي يُرَق به العجين ، وبدلاً من قطعة الخشب التي ترق العجين كانوا يستعملون حجراً مخروماً ويدخلون به عصاة المرق، ويضعون حب الزيتون بالمقر ويتقابل شخصان ويديران المرق على الزيتون ذهاباً وإياباً. وبعد هرس الزيتون يوضع في وعاء كبير به ماء مغلي لفصل الزيت عن الجفت العالق به ، ويسمى هذا الزيت الناتج "زيت فغيش" وفي بعض المناطق يسمونه "زيت طفاح" وهو من أجود أنواع الزيوت وألذها طعماً. ومصداقاً لذلك فقد ورد في التراث الفلسطيني من أغاني الأفراح ما يعزز ذلك حيث يقدم هذا الزيت للحبايب وأعز الناس :
    مَن هو عازمكن يا بنات يا ملاحِ عازمنا محمد هالشب الفلاحِ
    شو تطلبوا عالعشا يا عيوني صيصان مقلية بزيت طفاحِ
    وقد كانت عملية العصر بشكل عام تحتاج الى وقت طويل نظراَ لمحدوية الوسائل وبطء العملية وغزارة المحصول ، وكان الناس قبل البدء في عملية الجداد يسجلون موعداً لهم (دوْراً) في عملية العصر واستخلاص الزيت عند المسئول عن بد الزيت ويجلب الناس زيتونهم للعصر حسب المواعيد المعطاة لهم من صاحب البد. لذلك فكر ابو سليم بالإستثمار في هذا المجال ، فطرح فكرة شراء معصرة للبلد على ابي خليل ، ولاقت الفكرة استحساناً ودعماً من خليل الذي أقنع والده بوضع يده بيد ابي سليم وأن يتشاركا معاً في شراء معصرة متطورة. فاشتريا بيتاً مهجوراً بوسط البلد وقاما بشراء معصرة متطورة تعتمد على المكابس وذات طاقة انتاجية أعلى وأسرع من الطرق السابقة. وترك ابو خليل الإدارة الفنية والتسويقية لأبي سليم ، وتولىّ ابو خليل تنظيم المواعيد بين الناس. وكانا يستوفيان أجرة عصر الزيتون نقوداً لمن يملكها وهم القلة ، أو زيت زيتون لمن لا يملك النقود وهم الكثرة ، ويبيعان الفائض منه عن الحاجة في مدينة الخليل. وبدأت المعصرة أعمالها في خريف عام 1962م. وصارت المعصرة تعصر الزيتون لأهل القرية وللقرى المجاورة. وهذه الشراكة مثلت رباطاً ووثاقاً إضافياً للعلاقة بين خليل وآمنة وزادت من قوتها ووهجها. ومقدمة مناسبة لشراكة النسب والمصاهرة المنتظرة بين الحبيبين. حيث كانت عملية المحاسبة وتوزيع الأرباح مناسبة لزيارة خليل لوالد آمنة في بيتهم أثناء فصل الشتاء الذي كانت تغيب فيه لقاءات الكرم. فكانت هذه الزيارات تعوض اللقاءات وتزيد من التواصل بين العائلتين وبين الحبيبين. ولا تخلو من النظرات المتبادلة خلسة عندما تقدم لهم آمنة الشاي المغلي على بابور الكاز ، وكانا يسلمان على بعضهما البعض بلغة العيون ، وكانت الآذان تتبادل الإنصات لما يصدر عن كليهما من أحاديث. وكانا يرسلان الرسائل الصوتية المشفرة فتلتقطها الآذان الصاغية ويقوم العقل بتحليلها وردها الى معناها المقصود ، وكان ابو سليم يشعر أحياناً بعدم تتبع خليل لما يقوله ويلاحظ عليه شروداً عابراً لا يلفت الإنتباه الى درجة المصارحة.
    واستمرت البوتقة السياسية العربية في حالة الغليان والفوران ، كتفاعل بين مركبات كيماوية بكميات غير محسوبة وبمواد تحرق بعضها بعضاً ، ففي عام 1962م تبنى حزب البعث العربي الإشتراكي في مؤتمره القومي الخامس بدمشق منحىً استراتيجياً جديداً فقد أعلن نفسه حزباً قائداً وحاكماً أوحداً لسوريا وهمّش التعددية السياسية وألغاها في تناقض مع الديمقراطية التي ينادي بها. وتتالت الفوضى السياسية والغليان في بوتقة السياسة العربية ، ففي 8 شباط من عام 1963م حدث انقلاب عسكري في العراق كان في باطنه بعثياً وفي مظهره قومياً عربياً ، وذلك في محاولة من البعث التخفي بثوب القومية الناصرية لمسح ما لحق بهم من استياء شعبي عربي نتيجة انقلابهم في سوريا على الوحدة ، ولحين التمكن من أركان الحكم في ظل الواجهة القومية ممثلة بعبد السلام عارف ذو التوجه القومي الناصري والذي كان يتمتع بشجاعة عسكرية نادرة وأفق ثقافي ضيق. وكان يقود الإنقلاب شكلياً الصديق الوفي لعبد الكريم قاسم وهو عبد السلام عارف المعروف بميوله القومية الناصرية والدينية ، وكان المحرك لهذا الإنقلاب ومن خلف الواجهة حزب البعث العربي الإشتراكي حيث أراد البعثيون الإستفادة من شعبية عبدالناصر العارمة وركوب موجتها للوصول الى رأس هرم القيادة بالتدريج، وكان لمصر بقيادة ناصر دوراً مهماً وداعماً لهذا الإنقلاب على نظام الحكم الشيوعي الذي ناصبه العداء. وحاول عبد السلام عارف ايقاف تنفيذ حكم الإعدام بصاحبه عبد الكريم قاسم الذي لم ينفذ به حكم الإعدام عندما كان ممسكاً بزمام الحكم كرد للدين ، ولكنه لم يستطع تنفيذ ما أراد ، وتحت ضغط البعثيين الذين دبروا معه وله الإنقلاب أصدر أمره صاغراً للبعثيين بتنفيذ حكم الإعدام بصديقه الحميم اللدود ، وتمت محاكمته محاكمة فورية بدار الإذاعة وتنفيذ حكم الإعدام بالزعيم عبد الكريم قاسم رمياً بالرصاص. ومن ثم تم اغتيال العديد من أعضاء وقيادات الحزب الشيوعي العراقي والتنكيل بهم على يد المتنفذين من البعثيين. وشكل عبد السلام عارف مجلس قيادة للثورة على غرار الثورة المصرية مؤلفاً من طوائف وأحزاب مختلفة كان غالبيته من البعثيين الذين كان لهم الدور الأهم في نجاح الإنقلاب. وتنبه عبد السلام عارف لتغلغل البعثيين في السلطة مما حدا به الى أن يقوم بتحجيمهم في نوفمبر سنة 1963م واعتقال قياداتهم دون تنفيذ احكام الإعدام بأي معارض وهذا ما يحسب له على عكس من سبقوه ولحقوه. وبعد شهر من الإنقلاب الناصري البعثي في العراق حدث انقلاب في سوريا على الحكومة الإنفصالية التي حاولت العودة للوحدة ولم تفلح بذلك ، ففي 8 آذار عام 1963م قام الضباط الناصريون والمستقلون واالبعثيون القوميون بانقلاب على حكومة الإنفصال وانقسم البعثيون فيما بينهم ، وخاصة مؤسسوا الحزب الذين تاهوا في خضم التخبط السياسي والفوضى الهدامة والقرارات الإنفعالية غير المحسوبة، وردات الفعل الخاطئة التي كانت تتسم بها المرحلة. وبعد الإنقلاب على عبد الكريم قاسم حدث تقارب وتنسيق عراقي مصري وبانت في الأفق مؤشرات على محادثات بين الطرفين لإبرام صفقة وحدة بين القطرين ، والتفكير في ضم سوريا بعد الإنقلاب على الحكومة الإنفصالية ، واستبشرت الشعوب العربية بهذا التحول الإيجابي بين الدول العربية الثلاثة الفاعلة والقريبة من الحدث الأهم وهو اغتصاب فلسطين ، وساد التفاؤل الأوساط الشعبية العربية وخاصة الأوساط الفلسطينية صاحبة القضية. وعاش العالم العربي والفلسطيني بالذات أجواءً تفاؤلية تبشر بالوحدة العربية من جديد ومن أجل فلسطين وتحريرها من الغاصبين.
    وفي عصر أحد الأيام من ذلك العام حدث مشادة وعراك في القرية بين شابين، وشوهد الشباب والرجال ينتشرون في أزقة القرية ليلاً وهم يحملون الهراوات والعصي وأمواس الكباس والشباري يتحفزون للقاء بعضهم بعضا، فقسم منهم يكمن بالحارة الشمالية التي يقطنها ابوخليل وابو سليم ، والقسم الآخر يكمن بالحارة الجنوبية ، ومنع التجول بالقرية في تلك الليلة ، والتقت مجموعتان متخاصمتان في الساحة الرئيسية بالبلدة ، وبدأوا عراكاً بالعصي ، وخرج ابو خليل وخليل وابو سليم وسليم يستطلعون الموقف المتأزم بين عائلتي البلد الرئيسيتين ، ودخل خليل ليفصل بين المتخاصمين ، وبينما هو يفصل بينهم ويدعوهم للحوار والذهاب الى الديوان لحل المشكلة بالتفاهم ، والتحكيم بينهما ، فإذا بشاب من الحارة الجنوبية (القبلية) يضربه من الخلف وهو لا يدري بالعصا فشج رأسه وهرب ، قال أحد شبان الحارة الجنوبية "هذا اللاجيء وابنه مع الحارة الشمالية ، عليهم عليهم يا شباب" ، فهجم عليه خليل والدم ينزف من رأسه ، فشده ابو سليم وسليم للخلف ومنعاه من اللحاق به ، والتم كبار القرية وعقلائها ودخلوا بين المتخاصمين ليفصلوا بينهم ، وتعرض بعض الحجازين للضرب نظراً للفوضى والتداخل والطيش الذي اتسم به العراك. وأصر ابو سليم وسليم على خليل أن يأخذاه لبيتهما لوقف النزيف من رأسه ومعالجة الطبشة ، وأن يترك الأمر للكبار للفصل بين المتعاركين ، وذهب خليل مع ابي سليم وسليم للبيت ، ولما وصوا فتحت لهم آمنة وتفاجأت لما رأت ما حل برأس خليل ، فقال لها والدها :اسرعي وأحضري قهوة غير مغلية ، وأحضرت القهوة بسرعة ، فغرف منها ابو سليم ملء الكف وأغلق الجرح في رأس خليل بالقهوة وشد بيده عليه ، وقال : الحمد لله بسيطة ، الجرح سطحي ومش غميق وإن شاء الله بطيب بسرعة وما بحتاج حكيم ، وظل يشد على الجرح حتى توقف النزيف ، وطلب من أم سليم إحضار شاشة نظيفة ليلف بها على الجرح خوفاً من الإلتهاب إن ظل مكشوفاً ، وفعلاً لف الجرح ، وطلب من آمنة تحضير الشاي وأشار على ابنه سليم أن يبقى مع خليل ، وخرج هو لمتابعة الصلح بين العشيرتين ، فوجد كبار القرية مجتمعين بالديوان ، ولما دخل الديوان رحب به الجالسون ، وقال ابو خليل :
    يا جماعة تقبلوا ابو سليم حكم ، رجل محايد لا هو من عيلتنا ولا من عيلتكم. فوافق الجميع على اقتراحه. ولما استقصى ابو سليم الأمر من الطرفين المتخاصمين تبين أن الخلاف في بدايته قد نشأ بين شابين ينتميان لعائلتين مختلفتين وعلى سبب تافه ، حيث أن أحد الشابين من عائلة (أ) نادى صديقه من عائلة (ب) بإسمه متبوعاً باسم أمه ، وقال له مازحاً "فهمنا يا ابراهيم لولية" ، وكان هذا الشاب المُنادى لا يحب مناداته باسم أمه ، وكرر الشاب الآخر توجيه الحديث اليه وتسميته باسم أمه ، وقال له " البلد كلها بتعرفك باسم أمك لأن ابوك ميت من زمان ، ايش فيها يا إبن لولية" ، فما كان من ابراهيم الاّ أن ناوله كفاً على صدغه ، واشتبكا معاً ، وبدلاً من أن يفصل بينهما زملاؤهما الحاضرين ، تحيز كل فريق لإبن عائلته ، وبدأ العراك ، وذهب من كل عائلة نفر يطالب بالفزعة لعائلته ، واستنفروا شباب القرية وتوعدوا بعضهم العراك ليلاً بما يملكون من عصي، ولحق بهم رجال العائلتين بما يملكون من أمواس وشباري وعصي دون السؤال والتحري عن الأسباب ودون التروي والتحكيم بالعقل والمنطق بين الخصمين. وتحولت الطوشة الفردية بين صبيين طائشين مراهقين الى طوشة عائلية ، ضاعت فيها الطاسة ، واختلط فيها الحابل بالنابل ، واشتبك الشباب والرجال في معركة مجنونة. وأخيراً استطاع العقلاء أن يلموا الموضوع ، وعادت الأمور الى مجاريها بالقرية. وأسفرت الطوشة عن جرح ستة أشخاص من المتعاركين ، وجرح ثلاثة أشخاص من الحجازين.
    في نفس الليلة ذاتها شعر سليم بألم في يده اليمنى بدأ خفيفاً ثم صار يزداد الى حد عدم القدرة على احتماله ، وعدم النوم طيلة الليل ، وتبين أن يده معوجة وليست طبيعية ، وانزاح العظم عن موضعه وتحتاج الى تجبير ، وفي الصباح ذهب خليل ليطمئن عن سليم ، فوجده متألماً ، فأخذه خليل الى بلدة بيت أمر ، وكان في بلدة بيت أمر مُجبِّر معروف بمهارته في عمليات التجبير ، واسمه "حلمي ابو عياش" وكان متزوجاً من امرأة من أقارب ابي خليل ، وكان الأطباء يعجزون عما يستطيع إشافاءه من الحالات الصعبة والمعقدة من الكسور في المفاصل بالرغم من تفتيتها. وكان الناس يأتونه من كل مكان من فلسطين ، فلما كشف على يد سليم ليشخص الحالة عرفها فوراً ، وأخذ يسرق انتباهه بالحديث ، ثم بحركة فجائية ودون أن يشعر بها سليم شد يده بقوة ، لقد أعاد العظم الى وضعه الطبيعي ترافق ذلك مع صرخة عالية من شدة الألم أطلقها سليم ، وفي طريقهما عائدين للقرية شعر سليم بأن شيئاً لم يكن وعادت يده طبيعية كما كانت.
    وفي لقاء بالكرم بين آمنة وخليل ، سألته آمنة عن الطوشة ، فقال لها : اليوم الأمور أصلح بكثير من أول ، كانت الطوشات على الأقل تصير بمعدل كل شهر طوشة وأحياناً أكثر وتستمر أيام ويصير فيها قتل وذبح ، يا ستي وباختصار :
    البلد فيها عائلتين رئيسيتين ، العائلة الآولى والتي سكنت القرية اولاً أصلهم من حلحول ويسموهم الحلاحلة ، والعائلة الثانية أصلهم من سعير ويسموهم السياعرة ، وكان دايماً في نعرة وتنافس بين العائلتين على الأراضي، والم....... والمخترة والجاه والصيت والكرم والشجاعة والأصالة ، وحتى النعرة كانت بين الفخد والفخد في العائلة الواحدة ، وكل عائلة تود أن يكون منها المختار وإمام المسجد ، وفي الأخير حلوا الموضوع وصار لكل عيلة مختارها ، وبدل ما كان في ديوان واحد صار لكل عيلة ديوان ، وكان في القرية دكانة وحدة صار لكل عيلة دكان ، وبفكروا يعملوا لكل عيلة مسجد وإمام ، وكانت أفخاذ العائلة الواحدة تختلف فيما بينها على المخترة وكل فخد يريد أن يكون المختار منه وهكذا ، يعني العصبية القبلية بتنخر فينا مثل السوسة ، والله ما أنا عارف متى بدنا ننتهي ونتخلص منها ، بصراحة اشي مخجل ومؤسف ومؤلم. أنا شخصياً بكره العصبية القبلية والفئوية الحزبية على الرغم من إنوّ ابوي شيخ ابن مختار مثل ما بسمع وبشوف ، وحتى ابوي رفض ختم المخترة بعد وفاة جدي وتنازل لإبن عمه ، وصدقيني عمري ما بدخل حزب ، ويا ريت يلغوا اسماء العائلات من الأسماء الرسمية. وأزيدك من الشعر بيت كل قرية ما بتحب القرية اليّ بحدها ، وبتعتبرها متخلفة ، وتستهزيء بلهجتها ، وحتى الأحزاب موزعة حسب الأهواء في القرى ، مثلاً قريتنا فيها الغالبية من الحزب الشيوعي لأنو المتعلمين فيها انتموا للحزب الشيوعي وبجيبوا بعثات دراسية ، والقرية اليّ بحدنا على طول فيها الغالبية من حزب الإخوان المسلمين ، ومثال آخر قرية بيت ريما معظمها بعثيين لأنوّ ألامين القطري للحزب كان منهم وبجيب لطلاب البلد بعثات دراسية على سوريا. وقرية صوريف معظمها من الحزب الشيوعي وحزب التحرير لأنوّ في واحد منهم من قيادة الحزب بفلسطين وبجيب لطلاب البلد بعثات دراسية على الإتحاد السوفيتي ، وقرية بيت أمر اليّ بحد صوريف لزق برضو معظمهم من الحزب الشيوعي ، وقيسي على هالمنوال. والواحد بحس بشعور الناس النبيل والمخلص وبوطنيتهم وطيبتهم وعشرتهم وحسن جيرتهم ، بس لما توصل الأمور للعشائرية والحزبية بتختلف النفوس وبتنقلب وبتدور مية وثمانين درجة في اتجاه معاكس ، وبتشعري كأنهم مش من وطن واحد ، ولا من قرية وحدة ولا حتى من عيلة وحدة ، ولا كأنهم مشتركين بهم واحد وقضية وحدة ، وبختلفوا مع بعض لحد الشجار والعراك على أتفه الأسباب.
    في صيف عام 1963م تخرج خليل وآمنة من التوجيهي ، وحصل خليل على معدل 78% في الفرع العلمي وكان من العشرين الأوائل على محافظة الخليل ، وحصلت آمنة على معدل 71% في الفرع الأدبي ،وكانت هذه المعدلات تعتبر عالية في زمانها ، إذ كان الأول على المملكة في الفرع العلمي يتراوح بين الثمانين والتسعين ، والأول على الفرع الأدبي في بداية الثمانين ولا يصل الى خمسة وثمانين. وبدأ خليل يفكر في اتمام دراسته الجامعية ، ولكن آمنة حسمت أمرها بدخول معهد معلمات التابع لوكالة غوث اللاجئين. وكانت الجامعة الأردنية قد فتحت أبوابها في عام 1962م وبدأت بكلية الآداب والتجارة ، ولم يكن خليل راغباً في التخصص في أي من المجالين ، وكان يرغب في دراسة الرياضيات، ولكن لم تفتح بعد كلية العلوم بالجامعة الأردنية. وفي لقائه بالكرم مع آمنة طرحت عليه فكرة الدراسة في سوريا بوساطة عمها حسن الذي أصبح عضو قيادة قطرية لنفوذه العسكري وقربه من اقطاب القيادة في دمشق، ولكن خليل رفض الفكرة وقال:
    "ما في اشي ببلاش الاّ العمى والطراش ، إنتِ بتتوقعي إنهم يتركوني بحالي لمّا أدرس على حسابهم ، وإفرضي صار انقلاب على الحكومة الحالية وهذا صار شيء متوقع ، وأنا بطبيعتي ما بقدر اضبط نفسي عن ابداء الرأي بصراحة والخوض في السياسة ، وما بقدر على النفاق والمداهنة والعمل بعكس رغبتي ونيتي ، أنا فلاح دغري لا بعرف اللف ولا الدوران واليّ جوّاي على راس لساني مثل الطلقة على بيت النار، أنا قررت أدخل معهد خضوري بطولكرم ، وأدرس رياضيات ، هذا المعهد قديم وعريق وقوي والناس بتيجي عليه من آخر الدنيا من أفريقيا وآسيا ومن شرق الأردن ، وفيه مدرسين عتاولة وفطاحل ، وخرج ناس صاروا وزراء في بلدانهم ، وبعدين نفسي أختلط بأهل الشمال واتعرف على الأجواء الثقافية هناك وعلى العادات والتقاليد حتى اكون ملم بالتراث الفلسطيني كله واللهجات الفلسطينية المتعددة ، بتعرفي حركتنا قليلة ومحصورة على قرى الخليل المجاورة وزيارة المسجد الأقصى بالقدس كل ثلاث شهور مرة ، صدقي لغاية الآن ما زرت بيت لحم من شان أشوف مسقط رأس سيدنا عيسى عليه السلام واليّ بيجوا عليها الناس من آخر الدنيا ، وما زرت قرى من منطقة الخليل مثل يطا والسموع والظاهرية وبني نعيم ، حتى ما في تواصل بينا في الضفة الغربية نفسها ، وبتذكر مرة وحدة رحنا فيها رحلة مع المدرسة وكنت بالصف الرابع ، ويومها قعدت اسبوعين وأنا باقنع أبوي من شان يدفع رسوم الرحلة اليّ كانت نصف دينار ، وفي الأخير لحقت حالي لحوق ودفعت قبل الرحلة بيومين ، وأخذنا معانا زوادتنا وفراشنا وغطانا ، وكان معاي مصروف عشر قروش ، ويومها زرنا نابلس وطولكرم وبتنا بجنين بمدرسة أولاد ، وبعدين رحنا لعمان والبحر الميت والبتراء في الضفة الشرقية ، وكل هالجولة صارت في ثلاث ايام وأربع ليالي، وقضيناها كلها سفر وما عرفنا النوم ، ورجعنا مرهقين على الدوام مباشرة ، وما هو عالق بذهني من هالرحلة الطويلة الاّ آثار سبسطية قرب نابلس وآثار البتراء بالضفة الشرقية ".
    دخل خليل معهد خضوري سابقاً أثناء الإنتداب البريطاني ، (معهد الحسين الزراعي) أثناء العهد الأردني والذي يقع في مدينة طولكرم بشمال فلسطين لدراسة الرياضيات وذلك في بداية العام الدراسي 1963م – 1964م ، ودخلت آمنة معهد معلمات الوكالة في رام الله لدراسة اللغة الإنجليزية. وافترقا جغرافياً لتكون علاقتهما على المحك. ترى هل ستتأثر العلاقة بينهما بالبعد الجغرافي وبانخراطهما في أجواء مغناطيسية جديدة ومختلفة؟ وبانفتاح خليل على عالم جديد في وطنه، وهل ستقل قوة الجاذبية الفطرية بينهما ببعد المسافة نسبياً وذلك انسجاماً مع قانون الجاذبية العلمي حيث تتناسب قوة الجاذبية عكسياً مع بعد المسافة؟ أم أن معادلة الحب والعاطفة تختلف عن معادلة الجاذبية المبنية على استخدام العقل والمنطق في هذا الجانب. وهل يخضع الحب لقوانين العلم والمنطق ؟ أم يخضع العلم لقوانين الحب والعاطفة؟ أم أن لكل حقل قوانينه الخاصة به؟ سؤال ستتم الإجابة عليه لاحقاً.
    وللحديث والقصة بقية تتبع في الجزء السادس عشر.

    بقلم أحمد ابراهيم الحاج
    10/11/2009م
    اياد النمراوي
    اياد النمراوي

    { مشرف }


    آمنة  و خليل/الجزء الخامس عشر Stars15


    الجنس : ذكر
    البرج : الجدي
    عدد المشاركات : 2028
    العمر : 46
    البلد : الاردن
    نقاط النشاط : 982
    الاعجاب : 7
    المهنة : آمنة  و خليل/الجزء الخامس عشر Accoun10
    الدوله : فلسطين

    البطاقة الشخصية
    my sms:

    آمنة  و خليل/الجزء الخامس عشر Empty رد: آمنة و خليل/الجزء الخامس عشر

    مُساهمة من طرف اياد النمراوي السبت 12 مارس 2011 - 11:09

    ((وبفكروا يعملوا لكل عيلة مسجد وإمام ))...
    الى هذه درجة... ريت يلغوا اسماء العائلات من الأسماء الرسمية .
    في الأردن هناك دراسة وتوجيه من جلالة الملك الى الغاء اسماء العائلات ، سوف يكون الاسم من ثلاث مقاطع وهناك رقم وطني لكل شخص

      الوقت/التاريخ الآن هو الإثنين 20 مايو 2024 - 19:43