وفي محاضرته التي ألقاها الأربعاء 27 رجب 1429هـ بمقر مكتب الاتحاد بالقاهرة (الأمانة العامة)، واصل د. المنسي قراءته في كتاب " تهذيب مدارج السالكين" لابن القيم ، حيث عرض للأصناف الأربعة التي يراها أهل مقام "إياك نعبد" في أفضل العبادة وأنفعها وأحقها بالإيثار والتخصيص، حيث يرى أصحاب الصنف الأول أن أفضل العبادات: أشقها على النفوس، ويرى أصحاب الصنف الثاني أن أفضلها: التجرد والزهد، في حين يرى الصنف الثالث أن الأفضل ما كان فيه نفع متعد إلى الغير، أما أصحاب الصنف الرابع فيرون أن أفضل العبادة هو العمل على مرضاة الرب في كل وقت بمقتضى ذلك الوقت ووظيفته.
تجديد المعاني
وفي بداية محاضرته لفت د. المنسي إلى ضرورة تجديد المعاني الدينية ، حيث رأى أن المعاني تضعف مع الزمن والتغير، فكلمة مثل "العبادة" مثلا مرت على مدى التاريخ الإسلامي بمراحل صعود وهبوط ، وإشعاع وخفوت ، وهي تمر بمرحلة خفوت في أيامنا هذه.
وقال د. المنسي إن الإسلام أراد أن يخرجنا من استعباد كل ما هو غير الله ليردنا إلى الفطرة والحرية؛ ولذلك يقول الفاروق عمر رضي الله عنه : " متى اسعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا"، فالأصل أن الإنسان يولد حرًا .
وأشار د. المنسي أنه من حيث الواقع كم ممن يرون أنفسهم أحرارًا هم في الحقيقة عبيد، لافتًا إلى موقف تعذيب أبي جهل لسيدنا بلال رضي الله عنه، حيث يقول ظاهر الأمر إن أبا جهل حر وسيدنا بلالا عبد، في حين أن الحقيقة غير ذلك، فالحقيقة أن أبا جهل هو العبد، وأن سيدنا بلالا رضي الله تعالى عنه هو الحر.
وأضاف: الحرية معناها الانطلاق في معرفة الله والخضوع له والانقياد لأوامره ، الحرية عندنا هي شعار للآدمية .. الآدمي حر، لكن قد تستعبده الظروف ، أو أنظمه الحكم ، أو أنظمة الإعلام ، أو تستعبده تقاليد اجتماعية فرضت نفسها ، ويرينا القرآن كيف تقتل التقاليد عقول الناس مثل تقليد وأد البنات في الجاهلية، ونحن في مجتمعاتنا - بمنتهى الأمانة - عندنا التقاليد أقوى من الدين؛ التقاليد عندنا سور حديدي يقيد حركتنا فلا نستطيع أن نختار الحركة التي تحقق لنا الخير الحقيقي.
وتابع: وضعف المعاني عندي أخطر من مجيء العدوان من غير المسلمين، فنحن بحاجة إلى وصفة جديدة نستعيد بها أولا المعاني الصحيحة للأشياء ثم نستعيد بها القدرة على الاختيار .. اختيار المواقع ، اختيار الاتجاهات ، اختيار الوسائل والأدوات لتحقيق غاية .. لأننا أصحاب رسالة سواء كنا على وعي بها أم لا .. رسالتنا هي إقامة الحق، ولكي نقيم الحق في الأرض يجب أن نقيم الحق أولا في نفوسنا؛ وهذا ما فعله المسلمون الأولون أيام النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح.
العبادة الفضلى
وتساءل د. المنسي عن المعيار الذي نستند إليه في تحديد العبادة الفضلى، داعيًا إلى قراءة كتاب "فقه الأولويات" للعلامة الدكتور يوسف القرضاوي للالتفات إلى هذا الفقه، مشيرًا إلى أن الأمور أصبحت مختلطة علينا، حيث نختلف على الفرعيات ونترك الكليات والأسس التي تجمع بيننا، ما يعني وجود خلل في البناء الفكري والعقلي عند المسلم.
الصنف الأول
وأضاف : نحن بحاجة إلى سؤال : ما هي أفضل العبادات؟ وسأترك الإجابة لابن القيم .. حيث يقول:
" ثم أهل مقام إياك نعبد لهم في أفضل العبادة وأنفعها وأحقها بالإيثار والتخصيص أربع طرق ، فهم في ذلك أربعة أصناف: الصنف الأول عندهم أنفع العبادات وأفضلها: أشقها على النفوس وأصعبها . قالوا لأنه أبعد الأشياء عن هواها وهو حقيقة التعبد"..
وقال د. المنسي معلقًا : والتعبد هو مخالفة الهوى على طول الخط " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى" (النازعات:40-41) فالتعبد هو إخضاع الهوى لإرادة الواحد الأحد ، أما الهوى فهو السير والانطلاق مع هوى الإنسان حتى يصل إلى درجة الخضوع والتأليه للهوى "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه"(الجاثية:23) .
ثم قرأ : " قالوا : والأجر على قدر المشقة (...) وهؤلاء : هم أهل المجاهدات والجور على النفوس . قالوا : وإنما تستقيم النفوس بذلك؛ إذ طبعها الكسل والمهانة، والإخلاد إلى الأرض . فلا تستقيم إلا بركوب الأهوال وتحمل المشاق".
وعلق : وهذا كلام له بعض الحقيقة لقول الشاعر :
والنفس راغبة إذا رغبتها --- وإذا ترد إلى قليل تقنع
وذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم : " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" .
الصنف الثاني
وقرأ : " الصنف الثاني، قالوا : أفضل العبادات التجرد والزهد في الدنيا، والتقلل منها غاية الإمكان، وإطراح الاهتمام بها، وعدم الاكتراث بكل ما هو منها".
وعلق : التجرد يعني التخلص من كل العلائق والأشياء التي تربط الإنسان بدنياه والاتجاه إلى الله تعالى .
وقرأ د. المنسي : " ثم هؤلاء قسمان : فعوامهم : ظنوا أن هذا غاية، فشمروا إليه وعملوا عليه . ودعوا الناس إليه ، وقالوا : هو أفضل من درجة العلم والعبادة . فرأوا الزهد في الدنيا غاية كل عبادة ورأسها . وخواصهم : رأوا هذا مقصودا لغيره..".
وعلق : الزهد مرحلة من مراحل تزكية النفس فهو وسيلة لكي يزكي الإنسان نفسه . يطهرها ، يمنحها فرصة النقاء والصفاء والعودة إلى الفطرة الأولى لأن كثرة العلائق بالأشياء تشوش على الإنسان نفسه وتحرمه من صفاء النفس وبالتالي من نور البصيرة.
وقرأ : " وأن المقصود به عكوف القلب على الله ، وجمع الهمة عليه، وتفريغ القلب لمحبته ، والإنابة إليه ، والتوكل عليه ، والاشتغال بمرضاته . فرأوا أن أفضل العبادات في الجمعية على الله، ودوام ذكره بالقلب واللسان ، والاشتغال بمراقبته ، دون كل ما فيه تفريق للقلب وتشتيت له".
وعلق : يوجد مشكلة نحن نعاني منها كبشر فالحياة مسئولية كبيرة . الزوج ، الزوجة ، العمل ، المستقبل .. كل هذه الأمور تشغلنا ، مشيرًا إلى الأهمية البالغة لاستشعار مراقبة الله تعالى ، في كل حركة يقوم بها الإنسان ، لافتًا إلى الأثر الصحي الكبير لخشية الله تعالى وعبادته على الجانب الفسيولوجي من الإنسان والتي كشف عنه العلم الحديث.
الصنف الثالث
وقرأ د. المنسي : " الصنف الثالث : رأوا أن أنفع العبادات وأفضلها ما كان فيه نفع متعد ، فرأوه أفضل من ذي النفع القاصر . فرأوا خدمة الفقراء ، والاشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم ، ومساعدتهم بالمال والجاه والنفع أفضل . فتصدوا له وعملوا عليه واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " الخلق كلهم عيال الله ، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله" (رواه أبو يعلى) . واحتجوا بأن عمل العابد قاصر على نفسه ، وعمل النَفَّاع متعد إلى الغير . وأين أحدهما من الآخر ؟ . قالوا : ولهذا كان فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب.
قالوا : وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : " لأن يهدي الله بك رجلا واحدًا خير لك من حمر النعم" وهذا التفضيل إنما هو للنفع المتعدي . واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم : " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء " .
واحتجوا بأن صاحب العبادة إذا مات انقطع عمله ، وصاحب النفع لا ينقطع عمله ، ما دام نفعه الذي نسب إليه .
واحتجوا بأن الأنبياء إنما بعثوا بالإحسان إلى الخلق وهدايتهم ، ونفعهم في معاشهم ومعادهم . لم يبعثوا بالخلوات والانقطاع عن الناس والترهب؛ ولذلك أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أولئك النفر الذين هموا بالانقطاع للتعبد وترك مخالطة الناس".
وعلق د. المنسي قائلا : لأن مثل هذا التوجه يعطل مسيرة الحياة ويعطل الإنسان عن القيام بمسئولياته ؛ فالتعبد ليس غاية وإنما هو وسيلة لهدف أسمى هو الإعمار وبناء الحياة وفق منهج الله سبحانه وتعالى.
وقرأ : "ورأى هؤلاء التفرق في أمر الله ، ونفع عبادة ، والإحسان إليهم ، أفضل من الجمعية عليه بدون ذلك" .
الصنف الرابع
ورأى د. المنسي أن الصنف الرابع هو ملاك الأمر، داعيًا إلى وجوب الوقوف عنده للتعلم، وقد اكتفى بقراءته مع تعليق قصير، باعتبار أنه يشرح نفسه بنفسه، حيث يقول ابن القيم رحمه الله:
" الصنف الرابع ، قالوا : إن أفضل العبادة : العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته . فأفضل العبادات في وقت الجهاد . الجهاد ، وإن آل إلى ترك الأوراد ، من صلاة الليل وصيام النهار . بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض ، كما في حالة الأمن . والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا : القيام بحقه ، والاشتغال به عن الورد المستحب وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل.
والأفضل في أوقات السحر : الاشتغال بالصلاة والقرآن ، والدعاء والذكر والاستغفار .
والأفضل في وقت استرشاد الطالب ، وتعليم الجاهل : الإقبال على تعليمه والاشتغال به .
والأفضل في أوقات الأذان : ترك ما هو فيه من ورده ، والاشتغال بإجابة المؤذن .
والأفضل في أوقات الصلوات الخمس : الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه ، والمبادرة إليها في أكمل الوقت ، والخروج إلى الجامع . وإن بعد كان أفضل .
والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه ، أو البدن ، أو المال : الاشتغال بمساعدته ، وإغاثة لهفته ، وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك .
والأفضل في وقت قراءة القرآن : جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه، حتى كأن الله تعالى يخاطبك به . فتجمع قلبك على فهمه وتدبره ، والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك .
والأفضل في وقت الوقوف بعرفة : الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف على ذلك .
والأفضل في أيام عشر ذي الحجة : الإكثار من التعبد ، لا سيما التكبير والتهليل والتحميد . فهو أفضل من الجهاد غير المتعين .
والأفضل في العشر الأخير من رمضان : لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم ، حتى أنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم ، وإقرائهم القرآن ، عند كثير من العلماء .
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته : عيادته ، وحضور جنازته وتشييعه ، وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك .
والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك : أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم ، دون الهرب منهم ، فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه .
والأفضل خلطتهم في الخير . فهي خير من اعتزالهم فيه ، واعتزالهم في الشر ، فهو أفضل من خلطتهم فيه . فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم .
فالأفضل في كل وقت وحال : إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال . والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه .
وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق والأصناف قبلهم هم أهل التعبد المقيد فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته" .
وعلق د. المنسي قائلا : يعني الذي يريد أن يتقرب إلى الله بالصوم فقط يرى أنه إذا أفطر فقد نقص عمله ومن ثم يشعر بالذنب ويعتبر أن عبادته لم تقبل.. فالعبد المقيد هو الذي قيد نفسه بعبادة معينة .
وتابع القراءة : "فهو يعبد الله على وجه واحد . وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره ، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت . فمدار تعبده عليها . فهو لا يزال متنقلا في منازل العبودية، كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها ، واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى . فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره . فإن رأيت العلماء رأيته معهم . وإن رأيت العباد رأيته معهم . وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم . وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم ، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم.
وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم . فهذا هو العبد المطلق ، الذي لم تملكه الرسوم (طقوس معينه) ، ولم تقيده القيود ، ولم يكن عمله على مراد نفسه ، وما فيه لذتها وراحتها من العبادات . بل هو على مراد ربه ، ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه . فهذا هو المتحقق بـ " إياك نعبد وإياك نستعين " حقا ، القائم بهما صدقا . ملبسه ما تهيأ . ومأكله ما تيسر . واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته . ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خاليًا. لا تملكه إشارة . ولا يتعبده قيد . ولا يستولي عليه رسم . حر مجرد دائر مع الأمر حيث دار ، يدين بدين الآمر أنى توجهت ركائبه".
واختتم د. المنسي محاضرته بالدعوة إلى تدبر كلمات أبي سليمان الداراني عندما قال : "ما أجمل أن يجعل النجار منشاره مسبحته ، وأن يجعل الطبيب مشرطه مسبحته ، وأن يجعل العالم قلمه مسبحته" .
وتساءل : ماذا لو كان المسلمون قد تنبهوا إلى هذه المعاني منذ وقت طويل هل كانوا سيصلون إلى ما وصلوا إليه الآن؟ .. هذا الصنف الرابع هو الذي أوصلنا إلى لب العبادة وإلى حقيقة التعبد وأن المسألة لا تتوقف على رسوم أو أشكال معينة أو طرز معينة للعبادة إنما المسلم يتعبد في كل الأحوال بكل الأشكال والصور المشروعة، أوقاته كلها عبادة وإن اختلفت العبادة بحسب اختلاف الوقت والظروف والأحوال.
الأربعاء 20 نوفمبر 2024 - 20:54 من طرف جنى ميرو
» صيانة سخانات في دبي 0543747022 emiratefix.com
الأربعاء 20 نوفمبر 2024 - 19:53 من طرف جنى ميرو
» تركيب و تصليح سخانات مركزية في عجمان 0543747022
السبت 16 نوفمبر 2024 - 23:43 من طرف جنى ميرو
» تركيب و تصليح سخانات مركزية في عجمان 0543747022
السبت 16 نوفمبر 2024 - 23:11 من طرف جنى ميرو
» تصليح أفران في دبي 0543747022 emiratefix.com
السبت 16 نوفمبر 2024 - 22:15 من طرف جنى ميرو
» تصليح أفران في دبي 0543747022 emiratefix.com
السبت 16 نوفمبر 2024 - 22:11 من طرف جنى ميرو
» تصليح ثلاجات في دبي emiratefix.com 0543747022
السبت 16 نوفمبر 2024 - 0:11 من طرف جنى ميرو
» تصليح سخانات في دبي - 0543747022 (الشمسية و المركزية) emiratefix.com
الجمعة 15 نوفمبر 2024 - 20:33 من طرف جنى ميرو
» تركيب و تصليح سخانات مركزية في الشارقة 0543747022
الأربعاء 13 نوفمبر 2024 - 21:30 من طرف جنى ميرو
» اداة ذكاء اصطناعي للباحثين وطلاب الدراسات العليا
الجمعة 26 أبريل 2024 - 11:23 من طرف Abd