من حكايات جدي وجدتي (لكي لا ننسى)
..................................................
أتذكر بيت جدي جيداً ، يقع في الناحية الشمالية من قريتنا ، كما كان له بيت (عِلّية) في الكرم الواقع في أقصى شمال القرية ، وقد كنا ننزل فيه صيفاً بالتناوب مع دار عمي ، لأنه كان في مكان مرتفع ويحيط به كرم كبير. إن بيت جدي عبارة عن عقدٍ كبير وواسع بمسطح حوالي 300 متر مربع وبدون أعمدة ، وله ثلاث عقدات في السطح بريش من الأحجار متماسكة بالشيد ، وقد بناه جدي في الأربعينيات من القرن الماضي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية والتي شارك فيها جدي مع القوات التركية في اليمن ، والبيت مستطيل الشكل بعرض حوالي 12 متر وطول حوالي 25 متر أو أكثر ، وما زال متماسكاً على حاله ولا أدري كيف صمد هندسياً الى هذا الوقت ، ومن واجهته الأمامية يمتد سور بطول 25 متر وعرض 12 متر ، (حوش) وعند مدخل الحوش يوجد خمٌ للدجاج بعرض متر وطول متر ونصف من الطين والحجر الصغير وما زال البيت صامداً لغاية خروجي من الوطن سنة 1967. وعلى طرف السور الشمالي للبيت كانت توجد (مذاود) ، أحواض طعام للدواب والمواشي من الطين والحجر وكان يوضع فيها التبن والشعير والحشيش للدواب والمواشي ، وعلى الناحية الجنوبية سقائف للدواب والمواشي أثناء الشتاء. وعند التقاء الحوش بمدخل البيت من الناحية الشمالية كانت هنالك بسطة مرتفعة عن الأرض كالتخت المجوز (صُفّه) أو (مرقد) وهي غرفة النوم لجدي وجدتي أثناء فصل الصيف. وعلى طول الواجهة الأمامية للبيت كانت توجد طاقات للحمام في أعلى الواجهة. كذلك يوجد شباكين في الواجهة الأمامية وكانا مقوسين. أما من الداخل فقد اقتطع جدي ما مساحته حوالي 6 أمتار بطول عشرة أمتار من مساحة البيت وجعلها على مستوى الأرض ، لتكون مأوىً للبقرة التي على وشك الولادة والتي تلد أو البقرة المريضة لمزيد من الرعاية (غرفة العناية المركزة) ، وفيها أيضا تحفظ عدة الحرث والحصاد ، النير والسكة والقادم والمنساس والمناجل والقواليش والفاس والطورية ، والسلال ، ثم ارتفع حوالي متر ونصف عن الأرض حول هذه المساحة المقتطعة وبنى مسطبة البيت والتي صارت على شكل حرف L ، وقسمت بين ولديه اللذين تزوجا بالبيت (والدي وعمي) ، والجزء الطويل من حرف ال L قسمه الى غرفتين للنوم غرفة له بالشتاء ملاصقة للشبابيك والأخرى لعمي قبل نهاية حرف ال L الطويل بقليل ، وارتفع عن المسطبة ببسطتين على شكل التخت وعند كل تخت كانت طاقة غير مفتوحة للسراج ، وفي الجزء القصير من حرف ال L كانت غرفة النوم التي تزوج بها والدي أولاً قبل عمي وكانت كذلك فيها بسطة فوق المسطبة على شكل تخت وطاقة للسراج. وطاقات للتهوية على طول الواجهتين الشمالية والجنوبية للبيت. وكانت على جانبي البيت من الداخل خوابي من الطين للخزين ، فيها القمح والقطين ..الخ، وكانت تعلق في الجانب الآخر قوطة من القش يوضع بها الخبز ملفوفاً بالخيش المبلل بالماء صيفاً ، وبجانبها منقلة من القش كانت بمثابة سفرة الطعام ، وكانت في داخل جدران البيت فراغات مستطيلة الشكل (مسفط) للجوادل واللحف والمخدات ، وعند شباك المدخل الأمامي للبيت كانت هنالك (هِشّة) أي جرة الماء وعليها طاسة ألومنيوم للشرب وغطاء من الخشب وينبت عليها الطحالب الخضراء ، كما كان يوجد أباريق من الفخار للماء والزيت ،وكان هنالك المِصْون الذي تعمل في الجبنة واللبن والسّقا الذي تحضر فيه الزبدة. ولم أحضر هذه الشراكة حيث لم أكن مولوداً في تلك الأيام ولكن والدي خرج بعد الزواج بثلاثة سنين في بيت صغير أهداه إياه جدي لوالدتي التي هي من عائلة غير عائلتنا. لذلك اعتبرت أمي غريبة واضطهدت من جدتي لوالدي والتي هي من ابناء عمومة جدي وكذلك من زوجة عمي التي هي من أبناء عمومة جدتي. ولكن جدي كان طيباً لا يوجد عنده تفرقة عنصرية وكان يحب والدتي وكانت تحبه كثيراً وتدعو له بعد مماته وتثني عليه دائماً ، أما جدتي سامحها الله فكانت عنصرية ومنحازة لعمي (ابنها الصغير) وزوجته وأولاده وهذا ما كنت أشعر به أنا وإخواني وأخواتي حيث كنا نرجوها أن تزورنا وتنام عندنا وكانت تلاقي منا ومن والدتي كل معاملة حسنة ولكنها كانت تشعر عندنا بالغربة رغم التقرب اليها ، ولا تشعر عندنا بالراحة فتظل تنظر ناحية بيت عمي وتناشدنا بالعودة وتصل أحياناً الى حد الإمتناع عن الطعام والشراب حتى ترجع. كانت تلك مقدمة تراثية لتوثيق البيت والعادات والتقاليد أما الحكاية الآولى لجدي وجدتي فهي:
.....................................................................................................................................................................................................
"أين جدتي"
كنت أحب جدي كثيراً ، وكان يبادلني نفس الحب ، فقد تعلمت منه مباديء اللغة التركية وأنا صغير لا أتجاوز الخامسة ، تعلمت العد من 1 الى مئة وبعض الكلمات والمصطلحات التركية. كان جدي طويل القامة رشيق الجسم فقد خدم في العسكرية التركية في اليمن البلاد الجبلية الوعرة ، لذلك كان من أوائل اهل القرية الذين غامروا وأدوا فريضة الحج ، واتخذنا اسمه كلقب للعائلة (الحاج) وقد استمرت رحلته للحج حوالي ثلاثة أشهر أو أكثر ، وطال انتظارنا له ، وأتذكر أننا كنا نخرج يومياً ننتظر قدومهم ونعود بخفي حنين ، وطال انتظارنا الى أن عادوا بسلام على الجمال. حيث كانت الطريق خطرة والقوافل معرضة لاعتراض قطاع الطرق وهجمات وحوش الصحراء المتوحشة. لذلك كان في الحج مغامرة لا يقدر عليها الكثيرون. فمن كان يحج من القلائل يطلق عليه لقب الحاج. كنت أذهب للنوم في بيت جدي والذي كان يأوي عمي وعائلته أيضاً للإستماع الى قصصه الكثيرة عن الحرب وعن الجوع والفقر الذي كان يضرب في البلاد وعن اليمن وعن رحلته للحج ، وكانت حصة القصص ما بين صلاة المغرب والعشاء ، وكان ينام صيفاً بعد العشاء مباشرة هو وجدتي في مرقده خارج البيت. وكنت أسهر مع ابن عمي ، وكنا دائماً نسمع شخير جدي وجدتي ، فقد كان جدي يشخر كالتالي " بخ ، بخ ، بخ" وكانت جدتي ترد عليه "بف ، بف ، بف" وكنا نتسلى ونطرب على طريقة شخيرهم كالطبلة والمزمار. وكلمة بخ هي بلغة الصغار في تلك الأيام تعني (طبيخ) وكلمة بف كانت تعني (خبز) ، وكأن جدي كان يطلب من جدتي طبيخاً بترددات عالية من الشخير، وترد عليه: لا يوجد عندي طبيخ يا ابو عيالي ، في خبز بس بترددات هادئة من الشخير وكأنها تقول له :أنا مستعدة للعيش معك على الخبز فقط أريد خبزاً وحناناً يا بعد عمري. وفي أحد الليالي كنا نسمع صوت شخير جدي الذي كان يبدأ مبكراً عن جدتي كما تعودنا سماعه ، ولم نسمع شخير جدتي ، واسترقنا السمع واقتربنا منهما ، ولما نظرنا إليهما وهما نائمين لم نر رأس جدتي كالعادة ولكننا رأينا رأس جدي. فبُهِتنا وتساءلنا مستغربين "تُرى أين جدتنا ؟ ودخلنا للبيت نبحث عنها فلم نجدها ، وتفقدنا الحوش بين الأبقار والأغنام وحول خم الدجاج فلم نجدها وتساءلنا : ترى أين جدتنا ، أتُراها تحب وتقابل حبيبها بعد نوم جدنا ، يا للهول!! وعدنا الى مقر نومهما ودققنا النظر وأطرقنا السمع مرة أخرى ، وسمعنا شخير جدتي ، وهي تردد كعادتها : "بف ، بف ، بف" وكأنه يأتي من بعيد ، فلم نلمح رأسها ووجهها ، ولكن صوتها كان مسموعاً ، ولم نلحظ من شكل اللحاف وتكوراته أنها نائمة مكانها كالمعتاد ، وظل هذا السؤال بدون إجابة يحيرنا ويذهلنا ، ولم نستطع طرحه على أحد ، وظل الجواب مبهماً يثير الدهشة حتى توفي جدي. وعلمنا الإجابة فيما بعد ممن عايشوهما.
لم تكن جدتي جميلة ، وكانت صغيرة الحجم أي حبتها قليْلة ، وكانت نحيفة وسمراء ، لكنها كانت غيورة ، بينما كان جدي وسيماً وطويلاً ، لذلك كانت تغار عليه كثيراً ، وكان عندما ينام يرتدي ثوباً فضفاضاً لأنه كان نحيل الجسم نسبياً وكان رشيقاً وخفيف الظل ، ولشدة غيرة جدتي عليه كانت تنام معه أحياناً في داخل ثوبه كالكنغر الذي يحمل ولده. وعرفنا سر اختفاء جدتي في بعض ليالي الصيف بعد أن تقاذفتنا الظنون والشكوك والحيرة.
...............................................................................................................................................................................................
الحكاية الثانية بعنوان "عذراً يا جدي"
كنا ونحن صغار نعرف المطهر (وكان هو نفسه الحلاق) عندما يأتي للقرية حاملاً شنطته وفيها الموس ، حيث كان أهل القرية يحضرون له جوقةً من الصغار بالجملة من أجل الطهور (ختان الذكور) في بيت كبير العائلة ، وكان الأهالي يقيمون الحفلات ويغنون بعد انتهاء المطهر من عمله ويقيمون مأدبة غداء على شرفه وبمناسبة الطهور العزيزة على قلوبهم ، وكنا نلعب بالحارة دائماً ، وعندما يأتي المطهر نراه فنهرب ، وكبرت وصار عمري أربع سنوات دون أن يحتالوا علي ويخضعوني لعملية الطهور ، ولكن جدي استطاع أن يتحايل علي أخيراً وكان والدي في دكانته بقرية مجاورة ، فقد أدخل المطهر لبيته ، وجاءني للحارة وقال لي : لقد أحضرت معي بيض شنار وعصافير من الكروم فتعال معي لتأخذ نصيبك ، وفرحت بالخبر وذهبت مع جدي لبيته ، وحاولت أن أسبقه ركضاً لكنه أصر على مسك يدي والسير معه ، وأصبحت أسير معه أسبقه كالأرجوحة وهو قابض على يدي بقوة لا يتركني ولما دخلنا بيت جدي التقطني عمي منه وحملني ، وكنت ألبس ثوباً فضفاضاً ، ولمحت المطهر جالس على الفرشة وشنطته أمامه ، وبدأت الصياح والتملص من قبضة عمي ، فساعده جدي بمسك يدي ، وثبتوني بين أيديهم وأرجلهم وقام المطهر بعمله وسط صرخات الألم ، وبعدها حقدت على جدي حقد الصغار الأبيض من منطلق الدلال ، وخاصمته ، فالصغار لا يقبلون الخديعة بسهولة لبراءتهم البيضاء وعدم خبرتهم بها ، وقد حاول مراراً مصالحتي ولكنني كنت مصراً على موقفي رغم شفائي ، وبعدها بقليل مرض جدي فجأة ولزم الفراش ، ويبدو أنها كانت الإنذار بوفاته ، وبينما هو يحتضر طلبني لكي يراني ، فجاؤا الي يخبرونني بأن جدك يريد أن يراك ، فرفضت ، وألحوا علي "إنه يريد وداعك ، فهو على فراش الموت ولن تراه بعد ذلك ، ولكنني لم آبه لذلك وتمسكت بموقفي في عدم الصلح مع جدي ، وجاءني والدي فهربت واختفيت بأزقة الحارة ، ولم أكن أدرك أنه الوداع الأخير ولا أفهم معنى الموت وعدم اللقاء. وفعلاً توفي جدي وأنا على خصام معه ، وذهبت مع الجنازة لا أدرك الى أين هم ذاهبون ، وماذا يخبئون في النعش ، ولم وصلنا المقبرة وشاهدت مراسيم الدفن والوداع ، اقتربت من جثمان جدي وهو مسجى على حافة القبر ، وأهلي يودعونه ، لمحت وجه جدي ، ولما أنزلوه بالقبر بدأت أصرخ وأبكي "لا ، لا ، لا تدفنوه أريد جدي ، وبعدها ولفترة طويلة لفني الحزن عليه وكلما تذكرت الموقف أقول " عذراً يا جدي ، سامحني يا جدي العزيز. سيما أنني علمت من أهلي فيما بعد أنه نطق باسمي وهو يعاني من سكرات الموت الأخيرة.
...................................................................................................................................................................................................
الحكاية الثالثة بعنوان "عيدية جدتي"
عاشت جدتي عمراً مديداً ، وتضاءل حجمها وضعف نظرها ، وتعدت المئة عام ، وقد نبت لها أسنان جديدة ولكن أسنانها كانت ضعيفة واهية كأسنان الحليب ، وامتد بها العمر الى حوالي المئة وخمسة عشر عاماً ، وأذكر في أحد الأعياد وكنت في الصف الثالث الإبتدائي أعطاني والدي أنا وأخي الذي يكبرني مباشرة علبة حلقوم ، وكل واحد خمسة قروش (شلن أبيض) لكي نذهب لجدتي ونعيّدها ، بينما كانت عيديتنا نحن كل واحد قرش أحمر ، حيث كان مريضاً لا يستطيع الذهاب لجدتي مشياً على الأقدام ، وطلب منا إخبارها بأنه مريض وأنه سيأتي اليها حال شفائه ، وكان بيتنا الجديد في الجنوب الغربي من القرية في عقبة عفانة (منطقة السافرية) ، وبيت عمي الجديد في شمال القرية (منطقة الشمالية) والمسافة تتعدى أربعة كيلومترات ، وفي الطريق أكلنا علبة الحلقوم حبة حبة ، وخطرت لنا فكرة ، إن نظر جدتنا ضعيف جداً ، لماذا لا نطلي القرش الأحمر باللون الأبيض ، ونعيّد جدتنا بالقرش ونبقي الشلنين لنا مصروفاً نتبحبح بهما على العيد ، فهي لا تشتري شيئاً وهذه الفلوس سوف تحفظها في سرتها القديمة تحت المخدة وفي النهاية ستكون هذه الفلوس من نصيب أبناء عمي ونحن أحق بها ، وفي الطريق وجدنا علبة دخان لولو فارغة وبها الورق الأبيض الذي تحفظ فيه السجاير) ورق الألومنيوم( فلبسنا القرشين الأحمرين بورق الدخان الأبيض ، ولما وصلنا سلمنا على جدتنا فرفعت يدها الى أفواهنا تلقائياً لنبوسها لدرجة أنها كانت تلطم شفاهنا بظهر يدها ، وعيدنا جدتنا بالقرشين على أنهما بريزتين (البريزة عشرة قروش)،حيث كان القرش أحمراً والشلن والبريزة أبيضان، ولما أعطيناها العيدية قلنا لها فراداً هذه بريزة يا جدتي ، ففرحت بهما فرحاً شديداً على الرغم من أنها لا تصرف شيئاً ، وتبحبحنا على العيد بالشلنين نشتري الملبس بنوعيه (بيض الحمام والحامض حلو) والتمر والكسيبة والقلول والحلقوم مع البسكويت ، حيث كنا نعمل ساندويش بسكويت محشياً بالحلقوم ..... وكان لذيذاً جداً ...... الخ. ولما علم والدي غضب قليلاً في بداية الأمر ولكنه انفجر ضاحكاً على فعلتنا، وذهب لجدتي وأصلح الوضع بعد انكشافه من قبل أبناء عمي المدللين عند جدتي.
بقلم أحمد ابراهيم الحاج
20/5/2009
..................................................
أتذكر بيت جدي جيداً ، يقع في الناحية الشمالية من قريتنا ، كما كان له بيت (عِلّية) في الكرم الواقع في أقصى شمال القرية ، وقد كنا ننزل فيه صيفاً بالتناوب مع دار عمي ، لأنه كان في مكان مرتفع ويحيط به كرم كبير. إن بيت جدي عبارة عن عقدٍ كبير وواسع بمسطح حوالي 300 متر مربع وبدون أعمدة ، وله ثلاث عقدات في السطح بريش من الأحجار متماسكة بالشيد ، وقد بناه جدي في الأربعينيات من القرن الماضي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية والتي شارك فيها جدي مع القوات التركية في اليمن ، والبيت مستطيل الشكل بعرض حوالي 12 متر وطول حوالي 25 متر أو أكثر ، وما زال متماسكاً على حاله ولا أدري كيف صمد هندسياً الى هذا الوقت ، ومن واجهته الأمامية يمتد سور بطول 25 متر وعرض 12 متر ، (حوش) وعند مدخل الحوش يوجد خمٌ للدجاج بعرض متر وطول متر ونصف من الطين والحجر الصغير وما زال البيت صامداً لغاية خروجي من الوطن سنة 1967. وعلى طرف السور الشمالي للبيت كانت توجد (مذاود) ، أحواض طعام للدواب والمواشي من الطين والحجر وكان يوضع فيها التبن والشعير والحشيش للدواب والمواشي ، وعلى الناحية الجنوبية سقائف للدواب والمواشي أثناء الشتاء. وعند التقاء الحوش بمدخل البيت من الناحية الشمالية كانت هنالك بسطة مرتفعة عن الأرض كالتخت المجوز (صُفّه) أو (مرقد) وهي غرفة النوم لجدي وجدتي أثناء فصل الصيف. وعلى طول الواجهة الأمامية للبيت كانت توجد طاقات للحمام في أعلى الواجهة. كذلك يوجد شباكين في الواجهة الأمامية وكانا مقوسين. أما من الداخل فقد اقتطع جدي ما مساحته حوالي 6 أمتار بطول عشرة أمتار من مساحة البيت وجعلها على مستوى الأرض ، لتكون مأوىً للبقرة التي على وشك الولادة والتي تلد أو البقرة المريضة لمزيد من الرعاية (غرفة العناية المركزة) ، وفيها أيضا تحفظ عدة الحرث والحصاد ، النير والسكة والقادم والمنساس والمناجل والقواليش والفاس والطورية ، والسلال ، ثم ارتفع حوالي متر ونصف عن الأرض حول هذه المساحة المقتطعة وبنى مسطبة البيت والتي صارت على شكل حرف L ، وقسمت بين ولديه اللذين تزوجا بالبيت (والدي وعمي) ، والجزء الطويل من حرف ال L قسمه الى غرفتين للنوم غرفة له بالشتاء ملاصقة للشبابيك والأخرى لعمي قبل نهاية حرف ال L الطويل بقليل ، وارتفع عن المسطبة ببسطتين على شكل التخت وعند كل تخت كانت طاقة غير مفتوحة للسراج ، وفي الجزء القصير من حرف ال L كانت غرفة النوم التي تزوج بها والدي أولاً قبل عمي وكانت كذلك فيها بسطة فوق المسطبة على شكل تخت وطاقة للسراج. وطاقات للتهوية على طول الواجهتين الشمالية والجنوبية للبيت. وكانت على جانبي البيت من الداخل خوابي من الطين للخزين ، فيها القمح والقطين ..الخ، وكانت تعلق في الجانب الآخر قوطة من القش يوضع بها الخبز ملفوفاً بالخيش المبلل بالماء صيفاً ، وبجانبها منقلة من القش كانت بمثابة سفرة الطعام ، وكانت في داخل جدران البيت فراغات مستطيلة الشكل (مسفط) للجوادل واللحف والمخدات ، وعند شباك المدخل الأمامي للبيت كانت هنالك (هِشّة) أي جرة الماء وعليها طاسة ألومنيوم للشرب وغطاء من الخشب وينبت عليها الطحالب الخضراء ، كما كان يوجد أباريق من الفخار للماء والزيت ،وكان هنالك المِصْون الذي تعمل في الجبنة واللبن والسّقا الذي تحضر فيه الزبدة. ولم أحضر هذه الشراكة حيث لم أكن مولوداً في تلك الأيام ولكن والدي خرج بعد الزواج بثلاثة سنين في بيت صغير أهداه إياه جدي لوالدتي التي هي من عائلة غير عائلتنا. لذلك اعتبرت أمي غريبة واضطهدت من جدتي لوالدي والتي هي من ابناء عمومة جدي وكذلك من زوجة عمي التي هي من أبناء عمومة جدتي. ولكن جدي كان طيباً لا يوجد عنده تفرقة عنصرية وكان يحب والدتي وكانت تحبه كثيراً وتدعو له بعد مماته وتثني عليه دائماً ، أما جدتي سامحها الله فكانت عنصرية ومنحازة لعمي (ابنها الصغير) وزوجته وأولاده وهذا ما كنت أشعر به أنا وإخواني وأخواتي حيث كنا نرجوها أن تزورنا وتنام عندنا وكانت تلاقي منا ومن والدتي كل معاملة حسنة ولكنها كانت تشعر عندنا بالغربة رغم التقرب اليها ، ولا تشعر عندنا بالراحة فتظل تنظر ناحية بيت عمي وتناشدنا بالعودة وتصل أحياناً الى حد الإمتناع عن الطعام والشراب حتى ترجع. كانت تلك مقدمة تراثية لتوثيق البيت والعادات والتقاليد أما الحكاية الآولى لجدي وجدتي فهي:
.....................................................................................................................................................................................................
"أين جدتي"
كنت أحب جدي كثيراً ، وكان يبادلني نفس الحب ، فقد تعلمت منه مباديء اللغة التركية وأنا صغير لا أتجاوز الخامسة ، تعلمت العد من 1 الى مئة وبعض الكلمات والمصطلحات التركية. كان جدي طويل القامة رشيق الجسم فقد خدم في العسكرية التركية في اليمن البلاد الجبلية الوعرة ، لذلك كان من أوائل اهل القرية الذين غامروا وأدوا فريضة الحج ، واتخذنا اسمه كلقب للعائلة (الحاج) وقد استمرت رحلته للحج حوالي ثلاثة أشهر أو أكثر ، وطال انتظارنا له ، وأتذكر أننا كنا نخرج يومياً ننتظر قدومهم ونعود بخفي حنين ، وطال انتظارنا الى أن عادوا بسلام على الجمال. حيث كانت الطريق خطرة والقوافل معرضة لاعتراض قطاع الطرق وهجمات وحوش الصحراء المتوحشة. لذلك كان في الحج مغامرة لا يقدر عليها الكثيرون. فمن كان يحج من القلائل يطلق عليه لقب الحاج. كنت أذهب للنوم في بيت جدي والذي كان يأوي عمي وعائلته أيضاً للإستماع الى قصصه الكثيرة عن الحرب وعن الجوع والفقر الذي كان يضرب في البلاد وعن اليمن وعن رحلته للحج ، وكانت حصة القصص ما بين صلاة المغرب والعشاء ، وكان ينام صيفاً بعد العشاء مباشرة هو وجدتي في مرقده خارج البيت. وكنت أسهر مع ابن عمي ، وكنا دائماً نسمع شخير جدي وجدتي ، فقد كان جدي يشخر كالتالي " بخ ، بخ ، بخ" وكانت جدتي ترد عليه "بف ، بف ، بف" وكنا نتسلى ونطرب على طريقة شخيرهم كالطبلة والمزمار. وكلمة بخ هي بلغة الصغار في تلك الأيام تعني (طبيخ) وكلمة بف كانت تعني (خبز) ، وكأن جدي كان يطلب من جدتي طبيخاً بترددات عالية من الشخير، وترد عليه: لا يوجد عندي طبيخ يا ابو عيالي ، في خبز بس بترددات هادئة من الشخير وكأنها تقول له :أنا مستعدة للعيش معك على الخبز فقط أريد خبزاً وحناناً يا بعد عمري. وفي أحد الليالي كنا نسمع صوت شخير جدي الذي كان يبدأ مبكراً عن جدتي كما تعودنا سماعه ، ولم نسمع شخير جدتي ، واسترقنا السمع واقتربنا منهما ، ولما نظرنا إليهما وهما نائمين لم نر رأس جدتي كالعادة ولكننا رأينا رأس جدي. فبُهِتنا وتساءلنا مستغربين "تُرى أين جدتنا ؟ ودخلنا للبيت نبحث عنها فلم نجدها ، وتفقدنا الحوش بين الأبقار والأغنام وحول خم الدجاج فلم نجدها وتساءلنا : ترى أين جدتنا ، أتُراها تحب وتقابل حبيبها بعد نوم جدنا ، يا للهول!! وعدنا الى مقر نومهما ودققنا النظر وأطرقنا السمع مرة أخرى ، وسمعنا شخير جدتي ، وهي تردد كعادتها : "بف ، بف ، بف" وكأنه يأتي من بعيد ، فلم نلمح رأسها ووجهها ، ولكن صوتها كان مسموعاً ، ولم نلحظ من شكل اللحاف وتكوراته أنها نائمة مكانها كالمعتاد ، وظل هذا السؤال بدون إجابة يحيرنا ويذهلنا ، ولم نستطع طرحه على أحد ، وظل الجواب مبهماً يثير الدهشة حتى توفي جدي. وعلمنا الإجابة فيما بعد ممن عايشوهما.
لم تكن جدتي جميلة ، وكانت صغيرة الحجم أي حبتها قليْلة ، وكانت نحيفة وسمراء ، لكنها كانت غيورة ، بينما كان جدي وسيماً وطويلاً ، لذلك كانت تغار عليه كثيراً ، وكان عندما ينام يرتدي ثوباً فضفاضاً لأنه كان نحيل الجسم نسبياً وكان رشيقاً وخفيف الظل ، ولشدة غيرة جدتي عليه كانت تنام معه أحياناً في داخل ثوبه كالكنغر الذي يحمل ولده. وعرفنا سر اختفاء جدتي في بعض ليالي الصيف بعد أن تقاذفتنا الظنون والشكوك والحيرة.
...............................................................................................................................................................................................
الحكاية الثانية بعنوان "عذراً يا جدي"
كنا ونحن صغار نعرف المطهر (وكان هو نفسه الحلاق) عندما يأتي للقرية حاملاً شنطته وفيها الموس ، حيث كان أهل القرية يحضرون له جوقةً من الصغار بالجملة من أجل الطهور (ختان الذكور) في بيت كبير العائلة ، وكان الأهالي يقيمون الحفلات ويغنون بعد انتهاء المطهر من عمله ويقيمون مأدبة غداء على شرفه وبمناسبة الطهور العزيزة على قلوبهم ، وكنا نلعب بالحارة دائماً ، وعندما يأتي المطهر نراه فنهرب ، وكبرت وصار عمري أربع سنوات دون أن يحتالوا علي ويخضعوني لعملية الطهور ، ولكن جدي استطاع أن يتحايل علي أخيراً وكان والدي في دكانته بقرية مجاورة ، فقد أدخل المطهر لبيته ، وجاءني للحارة وقال لي : لقد أحضرت معي بيض شنار وعصافير من الكروم فتعال معي لتأخذ نصيبك ، وفرحت بالخبر وذهبت مع جدي لبيته ، وحاولت أن أسبقه ركضاً لكنه أصر على مسك يدي والسير معه ، وأصبحت أسير معه أسبقه كالأرجوحة وهو قابض على يدي بقوة لا يتركني ولما دخلنا بيت جدي التقطني عمي منه وحملني ، وكنت ألبس ثوباً فضفاضاً ، ولمحت المطهر جالس على الفرشة وشنطته أمامه ، وبدأت الصياح والتملص من قبضة عمي ، فساعده جدي بمسك يدي ، وثبتوني بين أيديهم وأرجلهم وقام المطهر بعمله وسط صرخات الألم ، وبعدها حقدت على جدي حقد الصغار الأبيض من منطلق الدلال ، وخاصمته ، فالصغار لا يقبلون الخديعة بسهولة لبراءتهم البيضاء وعدم خبرتهم بها ، وقد حاول مراراً مصالحتي ولكنني كنت مصراً على موقفي رغم شفائي ، وبعدها بقليل مرض جدي فجأة ولزم الفراش ، ويبدو أنها كانت الإنذار بوفاته ، وبينما هو يحتضر طلبني لكي يراني ، فجاؤا الي يخبرونني بأن جدك يريد أن يراك ، فرفضت ، وألحوا علي "إنه يريد وداعك ، فهو على فراش الموت ولن تراه بعد ذلك ، ولكنني لم آبه لذلك وتمسكت بموقفي في عدم الصلح مع جدي ، وجاءني والدي فهربت واختفيت بأزقة الحارة ، ولم أكن أدرك أنه الوداع الأخير ولا أفهم معنى الموت وعدم اللقاء. وفعلاً توفي جدي وأنا على خصام معه ، وذهبت مع الجنازة لا أدرك الى أين هم ذاهبون ، وماذا يخبئون في النعش ، ولم وصلنا المقبرة وشاهدت مراسيم الدفن والوداع ، اقتربت من جثمان جدي وهو مسجى على حافة القبر ، وأهلي يودعونه ، لمحت وجه جدي ، ولما أنزلوه بالقبر بدأت أصرخ وأبكي "لا ، لا ، لا تدفنوه أريد جدي ، وبعدها ولفترة طويلة لفني الحزن عليه وكلما تذكرت الموقف أقول " عذراً يا جدي ، سامحني يا جدي العزيز. سيما أنني علمت من أهلي فيما بعد أنه نطق باسمي وهو يعاني من سكرات الموت الأخيرة.
...................................................................................................................................................................................................
الحكاية الثالثة بعنوان "عيدية جدتي"
عاشت جدتي عمراً مديداً ، وتضاءل حجمها وضعف نظرها ، وتعدت المئة عام ، وقد نبت لها أسنان جديدة ولكن أسنانها كانت ضعيفة واهية كأسنان الحليب ، وامتد بها العمر الى حوالي المئة وخمسة عشر عاماً ، وأذكر في أحد الأعياد وكنت في الصف الثالث الإبتدائي أعطاني والدي أنا وأخي الذي يكبرني مباشرة علبة حلقوم ، وكل واحد خمسة قروش (شلن أبيض) لكي نذهب لجدتي ونعيّدها ، بينما كانت عيديتنا نحن كل واحد قرش أحمر ، حيث كان مريضاً لا يستطيع الذهاب لجدتي مشياً على الأقدام ، وطلب منا إخبارها بأنه مريض وأنه سيأتي اليها حال شفائه ، وكان بيتنا الجديد في الجنوب الغربي من القرية في عقبة عفانة (منطقة السافرية) ، وبيت عمي الجديد في شمال القرية (منطقة الشمالية) والمسافة تتعدى أربعة كيلومترات ، وفي الطريق أكلنا علبة الحلقوم حبة حبة ، وخطرت لنا فكرة ، إن نظر جدتنا ضعيف جداً ، لماذا لا نطلي القرش الأحمر باللون الأبيض ، ونعيّد جدتنا بالقرش ونبقي الشلنين لنا مصروفاً نتبحبح بهما على العيد ، فهي لا تشتري شيئاً وهذه الفلوس سوف تحفظها في سرتها القديمة تحت المخدة وفي النهاية ستكون هذه الفلوس من نصيب أبناء عمي ونحن أحق بها ، وفي الطريق وجدنا علبة دخان لولو فارغة وبها الورق الأبيض الذي تحفظ فيه السجاير) ورق الألومنيوم( فلبسنا القرشين الأحمرين بورق الدخان الأبيض ، ولما وصلنا سلمنا على جدتنا فرفعت يدها الى أفواهنا تلقائياً لنبوسها لدرجة أنها كانت تلطم شفاهنا بظهر يدها ، وعيدنا جدتنا بالقرشين على أنهما بريزتين (البريزة عشرة قروش)،حيث كان القرش أحمراً والشلن والبريزة أبيضان، ولما أعطيناها العيدية قلنا لها فراداً هذه بريزة يا جدتي ، ففرحت بهما فرحاً شديداً على الرغم من أنها لا تصرف شيئاً ، وتبحبحنا على العيد بالشلنين نشتري الملبس بنوعيه (بيض الحمام والحامض حلو) والتمر والكسيبة والقلول والحلقوم مع البسكويت ، حيث كنا نعمل ساندويش بسكويت محشياً بالحلقوم ..... وكان لذيذاً جداً ...... الخ. ولما علم والدي غضب قليلاً في بداية الأمر ولكنه انفجر ضاحكاً على فعلتنا، وذهب لجدتي وأصلح الوضع بعد انكشافه من قبل أبناء عمي المدللين عند جدتي.
بقلم أحمد ابراهيم الحاج
20/5/2009
الأربعاء 20 نوفمبر 2024 - 20:54 من طرف جنى ميرو
» صيانة سخانات في دبي 0543747022 emiratefix.com
الأربعاء 20 نوفمبر 2024 - 19:53 من طرف جنى ميرو
» تركيب و تصليح سخانات مركزية في عجمان 0543747022
السبت 16 نوفمبر 2024 - 23:43 من طرف جنى ميرو
» تركيب و تصليح سخانات مركزية في عجمان 0543747022
السبت 16 نوفمبر 2024 - 23:11 من طرف جنى ميرو
» تصليح أفران في دبي 0543747022 emiratefix.com
السبت 16 نوفمبر 2024 - 22:15 من طرف جنى ميرو
» تصليح أفران في دبي 0543747022 emiratefix.com
السبت 16 نوفمبر 2024 - 22:11 من طرف جنى ميرو
» تصليح ثلاجات في دبي emiratefix.com 0543747022
السبت 16 نوفمبر 2024 - 0:11 من طرف جنى ميرو
» تصليح سخانات في دبي - 0543747022 (الشمسية و المركزية) emiratefix.com
الجمعة 15 نوفمبر 2024 - 20:33 من طرف جنى ميرو
» تركيب و تصليح سخانات مركزية في الشارقة 0543747022
الأربعاء 13 نوفمبر 2024 - 21:30 من طرف جنى ميرو
» اداة ذكاء اصطناعي للباحثين وطلاب الدراسات العليا
الجمعة 26 أبريل 2024 - 11:23 من طرف Abd