منتديات خاراس الرسمية

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

3 مشترك

    ميزانية الإغتراب وحساب الأرباح والخسائر

    أحمد ابراهيم الحاج
    أحمد ابراهيم الحاج

    {{ كبار الشخصيات }}


    {{ كبار الشخصيات }}


    الجنس : ذكر
    البرج : الحمل
    عدد المشاركات : 231
    العمر : 72
    البلد : فلسطين - خاراس
    نقاط النشاط : 204
    الاعجاب : 4
    الدوله : فلسطين

    ميزانية الإغتراب وحساب الأرباح والخسائر Empty ميزانية الإغتراب وحساب الأرباح والخسائر

    مُساهمة من طرف أحمد ابراهيم الحاج السبت 8 يناير 2011 - 7:57

    ميزانية الإغتراب وحساب الأرباح والخسائر
    ............................................
    تنويه: المقالة طويلة ولكنها تستحق القراءة فأرجو المعذرة
    ..........................................................
    تعريف الإغتراب : هو إنفصال الإنسان عن المكان المألوف بسبب حصول خلل في العلاقة المتبادلة بينهما (الجاذبية + الإلفة) (والإلفة هي ردة فعل الإنسان تجاه جاذبية المكان( وذلك لأسباب داخلية أو خارجية ، والمكان بجاذبيته يضاف اليه إلفة الإنسان = قوة الجاذبية نحو الوطن ، إذن نخلص الى المعادلة التالية : المكان بجاذبيته + الإنسان بإلفته = حب الوطن (الهوية والإنتماء( وفي هذه المعادلة هنالك ثابتان ومتغيران ، الثابتان هما المكان والجاذبية الأرضية فالأرض بفطرتها تجذب اليها مكوناتها من الجمادات والمخلوقات ، والإنسان خلق من الأرض فهو من مكوناتها ، وإن قفز عالياً بقوته الذاتية فستعيده الأرض إليها بقوة الجاذبية ، والجاذبية الأرضية الفطرية يضاف اليها طاقة وقوة إلفة الإنسان للمكان ينتج عنها جاذبية أقوى من الجاذبية الفطرية الأرضية يمكن تسميتها الجاذبية الوطنية والتي تساوي الجاذبية الفطرية للأرض + طاقة وقوة الإلفة لجزءٍ من هذه الأرض ,وبمعنً أشمل (الوطن) والمتغيران هما الإلفة والإنسان ، والإلفة مظهر من مظاهر التغيير في أحلام وفكر الإنسان الذي يسكن المكان إمّا لقصر في نظره المعوج والقاصر بمقود الإحلام والأفكار القاصرة ، أو الإنسان الذي يسكن في مكان آخر لطولٍ في نظره الممتد بمقود الظلم والعدوان وسطوة العلم ، لذلك لم يكن المكان في يوم من الأيام سبباً لحصول خلل في العلاقة بينه وبين ساكنيه من بني الإنسان الذين ولدوا ونشأوا وترعرعوا فيه ، وإن حدث ذلك يكون هذا الخلل بسبب التغير في أحلام وفكر الإنسان ، وبفعل الإنسان بالمكان المسخر له من الخالق ، فيسيءُ الإنسان الى المكان ويراه ببصيرته المشوشة ضيقاً عليه فيهجره طوعاً ، أو يجبره إنسان دخيل على المكان(يأتي من مكان آخر( على هجره قسراً ليستأثر الأخير(الدخيل) بخيراته على حساب شتات الأول (الأصيل.( وصدق الشاعر عندما قال:
    لعمرك ما ضاقت بلادٌ بأهلها .............................ولكن أحلام الرجال تضيق
    وكما قال الشنفري في لاميّة العرب:
    لعمرك ما بالأرض ضيقٌ على امريءٍ .................. سرى راغباً أو راهباً وهو يعقِلُ......(راغباً أي عن طواعية ، وراهباً أي عن كره من الرهبة والخوف)
    إذن ما يسبب الخلل في العلاقة بين الإنسان والمكان هو جنوح أحلام وفكر الإنسان الى خارج حدود الواقع والمألوف وخروجه عن نواميس الفطرة وقوانين الطبيعة وثوابتها مما يصورللإنسان بأن المكان قد ضاق عليه ، وبالتالي يحدث الإنفصال (الإغتراب). والمكان يبقى كما هو ، والأجيال تتعاقب عليه في حركة دائبة ، وخير دليل ملموسٍ على براءة المكان من إحداث خلل في العلاقة بينه وبين الإنسان هو بلاد الصين ، فقد تكاثر الصينيون وأصبحوا أكثر دول العالم عدداً مع قلةٍ بالموارد ، وازداد الفقر والحاجة والجهل والمرض ، وأدى ذلك الى الإنفجار الذي ولَّد الثورة لتلبية الحاجة الضرورية لاستمرارية الحضارة الصينية القديمة ، ولكن أحلام رجالهم ما جنحت بهم خارج الصين من أجل سد حاجاتهم بالعدوان على غيرهم من الأمم ، ولم تجعل أحلام الرجال من الصين مكاناً ضيقاً على أهلها ، ولم يهاجروا للبحث عن حل مستورد يأتيهم من خارج الوطن ، فنفضوا عن أجسادهم وعقولهم غبار اليأس والقعود والجهل والخمول ، فأعملوا فكرهم وتدبروا أمرهم وانتفضوا ، وأبحروا في عباب بحر العلم مزودين بالهمة والنشاط والحيوية والعزم والتصميم والصبر والكتمان والسرية ، وصارت أعمالهم تتحدث عنهم وليس ألسنتهم ، وها هي الصين الآن تعتبر من أعظم القوى الإقتصادية والعسكرية والعلمية في العالم ، بل تتربع على عرش الإقتصاد وتدخل منتجاتها في كل بيت وفي كل مكان في العالم. ومثالٌ حي آخر هو الجزيرة العربية ، فبالرغم من قحطها وقساوة مناخها وحرها الشديد على الإحتمال ، بقيت معمورة بالسكان على مر العصور والأزمان وخرج منها خير أمة أخرجت للناس ، وتفجرت فيها ينابيع الخير والنفط وأصبحت محط أنظار لكل الأقوام والأمم تهفو اليها النفوس طلباً للرزق والأفئدة طلباً للعبادة ومن كل حدب وصوب. ربما ضاقت أحلام الرجال فيها يوماً ما ، ولكن الله بعث من عنده بالفرج. حيث تكفل الله سبحانه وتعالى بتسخير الأرض والكون والمخلوقات لخدمة الإنسان منذ أن أنزل آدم وحواء إليها. وإن أعمل الإنسان عقله وفكره وتدبر أمره ولم يسعفه عمله فسوف يأتي الحل والجزاء من السماء تنفيذاً لوعده. صحيح أن الله خص بعض الأماكن بمميزات لا توجد في أماكن أخرى ، لكنه أوجد التوازن بين الأمكنة لحكمة هو أعلم بها ، ووضع القاعدة للناس لتبادل المنافع والتكامل على أساس التفاضل ، حيث قال في محكم كتابه "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا" والتعارف هو إشاعة السلام بين الناس وذلك بالمحبة وتبادل المنافع والمصالح لتعميم الإستفادة من تمايز خصائص الأماكن من خلال تبادل المعرفة والعلوم ومقايضة السلع وتبادل المنتجات والخدمات بين سكان الأماكن المختلفة والمتمايزة وذلك بالحوار البناء وبالتي هي أحسن على قاعدة كلمة سواء تقرِّب بين المتحاورين وتوقع الإلفة والمحبة بينهم من أجل نجاح الحوار بينهم.
    ونعود الى الإغتراب ويمكن تقسيمه الى قسمين رئيسيين:
     الإغتراب الإرادي - الطوعي - الإختياري (خروج بنية العودة)
     الإغتراب اللاإرادي - القسري - الإجباري (خروج بلا عودة(
    والإغتراب الطوعي يصنف تحته الإغتراب لمهمات طارئة ومؤقتة والعودة للوطن بعد تأديتها، مثل البعثات التعليمية ، والإغتراب من أجل السياحة والإغتراب لتمثيل الوطن خارج حدوده كعمل السفراء والبعثات الدبلوماسية والعمل في الهيئات والمؤتمرات الدولية. وكذلك الإغتراب بعقود عمل خارج الوطن من أجل تحقيق أهداف خاصة وعامة للمغترب. وهذا النوع من الإغتراب حميدي التكاثر ويعود على المغترب بالنفع والإطلاع بزيادة المعرفة والإستمتاع شريطة استمراره بالتواصل مع وطنه وقت ما يشاء وعندما يحن ويشتاق. وأن لا يشعر بالحرمان من وطنه غصباً وعدواناً.
    والإغتراب القسري : يصنف تحته النفي عن الوطن بقرار من السلطات الحاكمة ويعتبر هذا من أقسى أنواع العقوبات على الإنسان ، وحدث هذا مع سيدنا ابراهيم ونفي من وطنه (العراق) قسراً واختار منفاه أو أن الله اختار له (فلسطين( بوحي منه من أجل تحقيق أهداف عامة وشاملة وسامية للناس جميعاً تنعكس على موطنه الأصلي بالخير اسوة بباقي الأمكنة، وكذلك وقع على سيدنا محمد عندما هاجر من مكة الى المدينة قسراً بسبب حرب الكفار له ومن أجل رسالته الرامية الى تحقيق أهداف نبيلة وسامية للإنسانية ، وكذلك وقع على المناضلين والشرفاء والأدباء والشعراء أمثال أحمد شوقي ، وشعراء المهجر وعبر شوقي عن قساوة العقوبة بالنفي وعن معاناته في منفاه أفضل تعبير حين قال:
    وطني لو شغلت بالخلد عنه .................................. نازعتني اليه في الخلد نفسي
    وهنالك أيضاً الإغتراب بسبب عدوان الإنسان على اخيه الإنسان طمعاً في احتلال مكانه وطرده منه والإستيطان فيه والأستمتاع بخيراته ، وحدث ذلك من مهاجري اوروبا الى أمريكا الشمالية والجنوبية وإبادة الهنود الحمر سكان المكان الأصليين واحتلال أرضهم والاستيطان فيها بالعدوان والقتل والإبادة خلافاً لنواميس الطبيعة وأحكامها وتعاليم الديانات السماوية وأخلاقها . وحدث في جنوب أفريقيا من قبل المهاجرين تجاه السكان الأصليين ، ولم يستطع المهاجرون القضاء عليهم واستطاع اهل البلاد الصمود والتصدي الى أن انتزعوا جزءاً كبيراً من حقوقهم من المعتدين. وحدث في فلسطين من اليهود المعتدين بوحي من الصهيونية الاوروبية والمسيحية المتصهينة ودعم سخي ومطلق من القوى المتنفذة في العالم في مؤامرة دولية كبيرة ومحبوكة ، وتم تهجير شعب من أرضه قسراً وفرض عليه الإغتراب عن وطنه بالقوة ، ولم يستطع المعتدي القضاء على هذا الشعب وإبادته لصموده وصبره وتمسكه بوطنه وسينال مبتغاه يوماً ما وليس ببعيد إن شاء الله.
    هنالك مقولة تقول " الفقر في الوطن غربة ، والغنى في الغربة وطن" وفي رأيي الشخصي فإن هذه المقولة مجافية للحقيقة وللصحة في عموميتها وفي معناها المطلق والتجريدي. ربما تصدق فقط وفي حالات خاصة في النوع الأول من الإغتراب وهو الإغتراب الطوعي حيث لا ينعدم التواصل مع الوطن ، وأن الهدف من الإغتراب هو تحقيق الغنى والثروة خارج الوطن والعودة بهما للوطن لخدمته والإستمتاع فيه بما جمعه من مال. وحتى نكمل البرهان نتطرق للمعاني الوطنية والتي تجعل من الوطن معشوقاً يضحى من أجله بالغالي والنفيس وبالدم والروح ، وما الذي يعمق الإلفة بين الإنسان والمكان الذي ينتمي اليه ويقوي جاذبيته ويجعل منه هدفاً يستحق الموت دونه ، إنها الذكريات المحفورة بالذاكرة ، والأيام بحلوها ومرها منذ الولادة وحتى الموت ، إنه الشعور بالشبع عند الرضاعة من حليب الأم أيام الطفولة ، ثم الشعور بالسكن والحاجة للنوم بين أحضانها ، إنه الشعور بالسعادة عند رؤية ابتسامة الأم والأب ومناغاتهم ومداعبتهم لصغيرهم ، إنه الشعور بالفرحة والسعادة عند اللعب بالحارة مع الأقران ، والذهاب معهم للمدرسة واللعب وتبادل الأحاديث والنكات والضحك والقهقهة ، والشعور بالحب والجاذبية المتبادلة بين العاشقين والمحبين من ذكر وأنثى ، والشعور بجمال طبيعة المكان وبما يجود به من خيرات على الإنسان ،يتنفس هواءه ويستنشق عبير أزهاره ، ويستظل بظلاله من الحر ، ويختبؤ بتجاويفه من البرد ، ويأكل من ثمار نباتاته ولحوم حيواناته وطيوره ، إنه الشعور بالسكون والطمأنينة وتبادل المودة والرحمة بين الزوجين ، والحنان والشوق المتبادلين بين الآباء والأبناء ، والشعور بالنشوة عند تحقيق النصر على الخصوم المنافسين بالمدرسة وفي الألعاب والمسابقات والمنافسات ، إنه الشعور بتقبل القضاء والقدر خيره وشره في أحضان الوطن ، واحتضان الأهل ومواساتهم عند الحزن وشعور الإنسان بأنه مدني لا يشعر بالوحدة والتوحد في مواجهة الملمات والخطوب والأقدار. إنه السكن في المكان بما يأويه من مخلوقات والشعور بالراحة والهدوء والإستقرار فيه ، فينشأ عن ذلك طاقةٌ وجاذبية تشد الإنسان للمكان خيوطها المودة والرحمة والسكن وإلفة الإنسان للمكان ، فتجعل الحياة سعيدة بحلوها ومرها. إنه التأقلم والتعود على المكان بنباتاته وحيواناته وجماداته ، فيرسخ في الذاكرة ويصبح العلاج الشافي لآلام الإنسان ، والدافع والرافعة القوية لشعوره بالسعادة والإستقرار. وخير دليل على ذلك دعنا نأخذه من مخلوقات الله من الحيوانات ، فلو أخذت قطة من مكان سكناها ، ووضعتها في مؤخرة سيارتك بحيث لا ترى طريقك طيلة مسيرتك بها بعيداً عن مكانها ، ثم سرت بها بعيداً عن مكانها الذي ولدت ونشأت وترعرعت فيه ، وبعد ذلك أطلقتها في المكان الجديد البعيد ، فسوف تلاحظ عصبيتها وخوفها وقلقها وموائها حزناً وضيقاً وشعوراً بالغربة تجاه المكان الجديد لحظة إطلاقها ، ثم تركتها وقفلت راجعاً للمكان الأصلي ، وبعد يومٍ أو يومين أو ثلاثة وحسب بعد المكان تجد القطة عادت لموطنها الأصلي. إنها جاذبية المكان المألوف لها وتنافرها مع المكان غير المألوف لها ، ولما وجدت إمكانية العودة متاحة لم تتوانى في تنفيذها بأقصى ما تملك من معرفة وجهد وتضحية ، إنه البحث بجد واجتهاد عن المودة والهدوء والإستقرار والإلفة والتي ضاعت جميعها من القطة عندما انفصلت عن مكانها المألوف. ودليل آخر بسيط من الإنسان : لماذا يشعر الإنسان بالأرق والقلق عندما يغير مكان نومه حتى في بلده ، وربما لا ينام لبضعة أيام إن سافر الى بلد آخر ، ويحتاج الى وقت طويل للتأقلم مع المكان الجديد الذي لن يمح صورة المكان القديم والمحفورة بالذاكرة. إنه الشعور بالحرمان وفقدان الطمأنينة والسكينة والإستقرار والسكن في المكان الجديد.
    نأتي الى حساب الأرباح والخسائر في الإغتراب. في الحقيقة فإن كلمات الإغتراب والغربة والغريب تعتبر في معانيها ووقعها على النفس كلمات نافرة ومنفرة للمشاعر وسالبة الشحنة ، وتوصف بإشارة الناقص ولذلك يمكن تصنيفها تحت بنود الخسائر ، وليس كل اغتراب في نتيجته وميزانيته يعتبر خاسراً ، وحقيقة الأمر فإن بنود ميزانية هذه المنشأة المعنوية لا تقيّم بالعملة (المال والنقد) فقط ، بل تختلف معاييرها ومقاييسها عن معايير ومقاييس المنشآت التجارية الربحية الأخرى. وإن مجرد شعور الإنسان باغترابه قسراً يعتبر قهراً وتمرداً وعناداً وإصراراً على المقاومة حتى الموت دون ذلك. فالإغتراب الإرادي يعتبر من المنظور النقدي (المالي) من قبيل المغامرة تحتمل النجاح والفشل بنسب متساوية ، وبالتالي فإن ميزانيته شأنها كشأن ميزانية أي منشأة تجارية ربحية الأهداف. تحتمل الربح والخسارة معتمدة على الخطة وآليات التطبيق والبرامج الزمنية لتحقيق الأهداف المرجوة من الاغتراب مع الأخذ بعين الإعتبار أن يكون التواصل مع الوطن موصولاً ، وخاصة تواصل مواليد الغربة من الأبناء مع وطن الآباء ، وضرورة إبقاء وطنهم ماثلاً في ذاكرتهم بالتواصل على مدى تعاقب المراحل العمرية (تواصل الفروع بالأصول). وهنالك طائفة من المغتربين تختار طوعاً لنفسها ولأبنائها الإغتراب القسري الطويل عن الوطن بمحض إرادتها مثلها كمن يسوق نفسه للتهلكة ، وميزانية هذا النوع من الإغتراب في محصلتها ونتيجتها النهائية ستؤول حتماً للخسارة ، مهما بلغت من أرباح نقدية ومهما حققت من نتائج مالية مرتفعة وطيبة. ومثال على ذلك وقوع الطلاق بين الزوج والزوجة بعد عشرة عمر طويلة وتركة من الأولاد تائهون بين ولائهم لأمهم أو لأبيهم ، إذن الإغتراب هو الطلاق بين الإنسان والمكان بعد عشرة وإلفةٍ طويلة ، إنه الإغتراب الطوعي الخاسر في بدايته وتحوّله الى اغتراب قسري في نهايته. فمهما ترك الوالدان لأبنائهما من المال فلن يعوض ذلك جزءاً يسيراً من جراحاتهم ومعاناتهم الناتجة عن افتراق الوالديْن بالطلاق وعن شتاتهم النفسي.
    نستنتج مما ذكر أعلاه وبالتحديد آخر السطر السابق لهذا السطر مباشرة أن الإغتراب اللاإرادي يعتبر في مجمله إغتراباً خاسراً في ميزانيته ، نعم إنه خاسر ، ولكن كيف ولماذا؟؟
    إن أقرب مثال على هذا الإغتراب هو "إغتراب الفلسطيني القسري عن وطنه" ، فأول مؤشرٍ على الخسارة هو أن هذا الإغتراب فرض على من ضاقت أحلامهم من الرجال في وطنهم وعلى من لم تضق أحلامهم. وعليه فقد أمضى المغترب من الصنفين سنوات طويلة من عمره وهو يبحث عن نفسه في مكانه الجديد الذي فُرض عليه بشكل مفاجيء دون سابق إنذار وتهيئة وتحضير ، وربما كان ذلك المكان بمناخه وتضاريسه لا يتناسب مع مناخ وجغرافية وسلوكيات ومحيط مكانه الأصلي ، فيحتاج الى وقت طويل وجهد كبير وتضحيات غالية وضغطٍ على النفس ليتأقلم معه ويتعود عليه ، فعانى من القهر والتشرد والحرمان والذل والإحتقار ونظرة الدونية من الغير سواءً كانت مقصودة أو غير مقصودة ، وإن مجرد شعور الإنسان باغترابه قسراً بلا إرادة من تلقاء نفسه ، يعتبر قهراً وينتهي تمرداً وعناداً وإصراراً على المقاومة حتى الموت دون ذلك. وفي الحقيقة لقد كانت هذه المرحلة في عداد وبمثابة سنوات ضياع من العمر ، واختزال لمراحل هامة من مراحل حياة الإنسان ، فمنهم من اغترب طفلاً فتعذبت وضاعت طفولته البريئة بإهمالها وتهميشها في معمعة النكبة والنكسة وآثارهما السلبية ، ولما كبر فطن الى ضياع طفولته وأصبح يعاني من هذا الضياع والحلقة المفقودة في حياته ، ومنهم من اغترب مراهقاً وضاع اعتزازه بنفسه وفقد كبرياءه وكبت مشاعره وأحاسيسه الجياشة المتدفقة والوقادة ، وأخذ يعاني من الكبت والضغط القوي من الخارج الى الداخل ويتحول ذلك في داخله الى عقد نفسية يفرغ الهموم في عملية ضغط ضعيفٍ من الداخل في مواجهة ضغطٍ قويٍ من الخارج فيرتد على شكل براكينٍ نفسية رهن الإنفجار. ومنهم من اغترب كهلاً يحمل أجمل الذكريات عن الوطن فقضي بقية حياته في حسرة عليها وعلى الأيام الخالية ، ومنهم من اغترب شيخاً وأعياه التشرد الذي لم يقوَ على مقاومته ومقارعته بجسده الهزيل فمات ودفن خارج وطنه في نهاية لم يكن يتمناها وعلى العكس من رغباته بحسن الخاتمة وتمنياته بالدفن في مسقط الرأس. وخلفت هذه الفجوات وفقدان الحلقات العمرية المتسلسلة على اختلاف فئاتها من الناس عقداً نفسية وأمراضاَ عصبية وجسدية ووَرَّثها السلف للخلف بالعوامل الوراثية. وكل هذه النتائج والتبعات لا يعوضها مال ولا جواهر ولا عمارات ولا سيارات ولا أطيان ، وحفرت بآثارها بالنفس والوجدان وخلفت لواعجاً مؤلمة تلقاها السلف وورثها للخلف. وسجلت في بند الخسائر المعنوية والإنسانية الفادحة التي لا يمكن استدراكها وتعويضها بالنقد والمال والذهب والأسهم والعقار. وأثرت سلباً على ميزانية الربح والخسارة ودمغتها بالأحمر وكانت المحصلة النهائية للنتيجة هي الخسران. ولم يقتصر ذلك عند هذا البند ، وأضيف الى بند الخسائر فقدان التواصل مع الوطن في عملية مقاومة للحنين والشوق الفطري للأهل والوطن ، فتوقف تواصل المغترب وتواصل أبنائه من بعده مع الوطن ، وتشعب الى بندين من بنود الخسائر ، وهو معاناة المغترب من لهيب وحرارة الأشواق والجاذبية والحنين للوطن وللأهل وللأماكن والأزمان ومرارة الشعور بالحرمان وفقدان الهوية وما ينتج عنه من معاناة في التنقل بين الأماكن المسموحة له والتي يدخلها مشبوهاً بعد طول انتظار وتفتيش دقيق ومراقبة واستدعاء وادعاء عليه ، والصد عن الأماكن المحظورة عليه بحجة تُهم هو بريء منها. وكذلك تكبير الفجوة بين أبنائه الذين ولدوا خارج الوطن وبين وطنهم وهويتهم نتيجة لغياب خيوط وحبال الإلفة التي تشدهم للمكان وطرحها من قوة الجذب نحو الوطن ، وتبقى تربطهم به حبال الرحمة والمودة التي ينسجها لهم آباؤهم وتاريخهم إن كتب بأمانة وقرأته الأجيال بتمعن وتفكر، وعندما يمنع الأبناء من التواصل مع الوطن ينشأ لديهم شعورٌ بالحرمان والضياع والتوهان وتعدد الإنتماءات والولاءات لمداراة ومراعاة المشاعر والتصرفات السالبة لسكان الأماكن (الأوطان) التي يتواجدون عليها إما بالرضوخ للواقع المؤلم وكظم الغيظ أو (الرحيل/ الترحيل) الى مكان مجهول في هذا العالم لتبدأ معاناة جديدة في مكان جديد أو العقاب بالقمع والسجن والتعذيب. وبذلك تقل الجاذبية الحسية للوطن وتظل جاذبية يراها في الخيال وأحلام اليقظة والنوم وتضعفها ظروف الحياة الصعبة ولقمة العيش ، فتضعف الروابط المحسوسة بينهم وبين موطنهم وانتمائهم الحقيقي ويتنازعهم تشتت الأمكنة وتباعد الأزمنة ، ويطول توهانهم في هذا العالم وتزيد مشكلتهم الإنسانية والوطنية تعقيداً وبعداً واستعصاءً على الحل ، ويتحول التنافس بينهم من أجل المصالح الوطنية وخدمة الأوطان ، الى تنافس أخوي غير شريف حفاظاً على الوجود في عملية صراعٍ على البقاء ، بحيث تنعدم بينهم روح الأخوة ووحدة المصير ، فيغرقون في دوامة العنف الذاتي المتبادل بين الأشقاء ، حيث يتشتت المصير تبعاً للزمان والمكان والإنتماء والولاء وتستبدل البوصلة الوطنية ببوصلة جهة الولاء والإنتماء ومصادر الدخل والتمويل للأفراد والفرق والطوائف والأحزاب ، وسوف تتقاذفهم أمواج التناقضات بين المجالات الإقليمية والدولية ويضيعون في بحر لُجِّيّ من التناقضات الذاتية فيما بينهم من جهة وبين تناقضاتهم مع خصومهم من جهة أخرى ، فتكثر النفاثات في العقد وتعبث بحبل الروابط بينهم فتزيده تعقيداً ، فتخور قواهم ويلاقون الهزيمة تلو الهزيمة والإنكفاء تلو الإنكفاء يتولون تتآكل قوتهم بفعل صراعاتهم الذاتية كالقطة التي تأكل أولادها. ليست كل حالات الإغتراب القسري الفلسطيني خاسرة ، ولكنها في مجملها وعموميتها وسوادها الأعظم حالاتٌ في محصلتها خاسرة ، لأن الفلسطيني المغترب يفقد الملجأ ومرفأ الأمان إن أهين في غربته أو إن تعرض للمضايقة والظلم في عمله أو الإساءة من جاره فليس أمامه الاّ التحمل وكظم الغيظ والصبر وحني الرأس مكرهاً أمام العواصف من كل اتجاه على حساب الكرامة وعزة النفس من أجل الحفاظ على لقمة العيش له ولعائلته ، فبدائله وخياراته محدودة ونادرة على هذه الأرض ، لأن كل المنافذ والمخارج والبدائل مغلّقة أمامه ، فيكبت مشاعره وإحساسه بالكرامة والعزة في دواخله تتورّم وتتقيّح متحفزةً للإنفجار كالبركان ، ولا أحد يعلم متى سينفجر. وكم من نفوس فلسطينية انفجرت وفجرت نفسها من شدة القهر والظلم والحرمان. وما قيمة النجاح إن لم يكن للإنسان وطن يرعاه ويفرح به ، وإن تحقق النجاح خارج الوطن فسوف يُختطف ويُغتصب ويُنهب ويُنسب للغير ويجير نفعه للغير ، الذي ربما كان عدواً أو موالياً ومسانداً للعدو، ويُظلم الوطن بتجيير إبداعات طاقاته البشرية لأبناء أوطان أخرى ويحرم منها وطنهم الذي يستحقها. ربما كان للغربة منجزات وأرباح مالية تحت بند الأرباح في ميزانية الغربة للكثير من المغتربين ، ولكن يقابلها في بند الخسائر لواعج وحرارة أشواق مكبوتة في الصدور ، ومعاناة وتشرد وحرمان وفقدان للأمن الإجتماعي وللأمان وللإستقرار في المكان وفقدان لمراحل عمرية مهدورة ونقص في الشعور بالعزة والكرامة وحرمان من الملاذ والمرفأ الآمن عند الشعور بالضيق والظلم في الأماكن الأخرى ، ولكن ما فائدة المال الذي لا يُشعِر الإنسان بالسعادة ، حيث تنتفي وظيفة المال ويصبح عدواً لصاحبه يجلب له الطامعين واللصوص ويغرقه بالمصائب والكوارث كما هو حال البترول العربي وانعكاساته على العرب ، إذ قال تعالى في كتابه العزيز "المال والبنون زينة الحياة الدنيا" وإن لم يكن المال زينة الحياة الدنيا ويوظف ويسخر لهذا الغرض بالإستمتاع المشروع فهو بمثابة الهباء المنثور في الهواء يُذر في عيون صاحبه فيجلب له انعدام الرؤيا والعمى عن الحقائق والطريق السليم فينقلب المال غير المُصان على أصحابه ليتحول الى نقمة بدلاً من أن يكون نعمة.ولقد تطرقت في كتاباتي السابقة لعدة حالات من الإغتراب ومعظمها كانت حالات خاسرة ، وشرحت بالتفصيل أوجه الخسائر بتشعباتها في كل حالة، وكانت كل حالة متفردة في خسائرها وأرباحها ومغايرة لغيرها في أوجه معاناتها ونجاحاتها، وهذا لا يعني بالضبط أن كل حالات الإغتراب الفلسطيني كانت خاسرة على صعيد مقاومة وحشة الغربة والتغلب عليها بالصبر والجبروت والإرادة وحب الحياة ، وعلى صعيد تأدية الواجبات والمهام في أماكن الغربة وتحقيق الأهداف منها ، بالعكس لقد أثبت الفلسطيني مقاومة باسلة لآلام الغربة القسرية عن الوطن وظروفها الصعبة وانتصر عليها، وحمل على كاهله عبء مقاومة لواعج الغربة ومقاومة المحتل ومقاومة قطع الأرزاق والتشبث بالوطن وأبدع في جميعها، وتحدى كل الظروف ونجح في غربته وأبدع وساهم في بناء دول عربية كثيرة وفي النهضة العلمية في دول غربية وشرقية، وكان مثالاً مشرفاً لوطنه الضائع منه والذي يحمله في آماله وتمنياته، ملتزماً بقوانين البلد الذي يحل فيه، محافظاً وحساساً وغيوراً على شرفه وعرضه ومتمسكاً بأصله وجذوره، وحافظاً لكرامته ما استطاع الى ذلك سبيلا في توازن مع الحفاظ على مصادر ومنابع رزقه ورزق عياله المُجففة، ولكن التآلف الفلسطيني خارج الوطن ينتابه الضعف وحتى الغياب، وتشعر أن الفلسطيني لا يتقارب ويتراحم مع شقيقه الفلسطيني الذي يعمل معه بنفس المؤسسة أو الشركة، فيدور بينهم صراع من أجل البقاء في الوظيفة التي تمثل الضمانة الوحيدة لهم خارج وطنهم الذي حُرِما منه، فيشعر الفلسطيني المُهجَّر بضعف وخوف اجتماعي وانعدام أمن أسري وعائلي يحفظ به مستقبل أولاده، ويفتقد الفلسطيني المهاجر قسراً الى السند والظهر الذي يسنده ويحفظ مستقبله، فيضطر للدفاع عن عرينه حفاظاً على لقمة عيشه على حساب تناقص المودة والتراحم بين الأشقاء الشركاء في التهجير والمنفى وتحولهم أحياناً الى الإخوة الأعداء، وهم معذورون في ذلك الى حدٍّ ما انسجاماً مع الفطرة الدفاعية عن النفس والتي أودعها الله في خلقه، ولم تكن غربة الفلسطيني خاسرة على صعيد منافع الأمكنة (الأوطان) الجديدة التي اغترب فيها، لقد كان مكسباً وبند ربح لهذه الأوطان التي اغترب فيها، ولكن الخسارة في غربته كانت شخصية وأسرية وعائلية في ميزانية اغترابه عن وطنه وأهله ممتدة في تعاقب الأجيال، تحمَّلها هو على حساب مشاعره وأحاسيسه وصحته ونفسيته وإنسانيته وحمَّلها بالوراثة الى أبنائه وأحفاده، وكذلك على حساب حقوقه المشروعة بشريعة الخالق السماوية وشرائع الإنسان الوضعية في أن يكون له وطن وهوية كباقي البشر يلجأ اليه كلما شعر بحاجته له كغيره من الناس ، تماماً كما يشعرالجائع بشهية وحاجة للطعام ،والظمآن بشهية وحاجة للماء. والمُرهق المُؤرق بحاجة للراحة والنوم، واليتيم المحروم بحاجة الى حنان الوالدين. إن معاناة الفلسطيني في غربته القسرية من جراء نكبته ونكسته تفوق التوقعات بماهيتها وطول زمنها، وتفوق قدرة تحمل الإنسان المتوقعة في مقابلة ومقاومة الخطوب والأهوال ووحشة الإغتراب، وإن التضحيات التي قدمها الفلسطيني من أجل البقاء والحياة والتشبث بالوطن لم ترق اليها تضحيات إنسانية في المنظور التاريخي الغابر لإنسان هذا العصر. فقد واجه نكبته ونكسته بالصبر والإيمان والتشبث بالحقوق وسوف ينال جزاءه إن شاء الله.
    بقلم أحمد ابراهيم الحاج
    19/10/2008


    اياد النمراوي
    اياد النمراوي

    { مشرف }


    ميزانية الإغتراب وحساب الأرباح والخسائر Stars15


    الجنس : ذكر
    البرج : الجدي
    عدد المشاركات : 2028
    العمر : 46
    البلد : الاردن
    نقاط النشاط : 982
    الاعجاب : 7
    المهنة : ميزانية الإغتراب وحساب الأرباح والخسائر Accoun10
    الدوله : فلسطين

    البطاقة الشخصية
    my sms:

    ميزانية الإغتراب وحساب الأرباح والخسائر Empty رد: ميزانية الإغتراب وحساب الأرباح والخسائر

    مُساهمة من طرف اياد النمراوي الإثنين 10 يناير 2011 - 13:13

    اشكرك على هذة المقالة
    ( وطني اذا شغلت بلخلد عنه
    نازعتني نفسي بلخلدعنه)
    avatar
    انور رزق


    ميزانية الإغتراب وحساب الأرباح والخسائر Stars5



    الجنس : ذكر
    البرج : الميزان
    عدد المشاركات : 1011
    العمر : 41
    البلد : kharas - cyprus
    الحالة الاجتماعية : اعزب
    التخصص : رجل اعمال
    نقاط النشاط : 0
    الاعجاب : 0
    الدوله : فلسطين

    البطاقة الشخصية
    my sms:

    ميزانية الإغتراب وحساب الأرباح والخسائر Empty رد: ميزانية الإغتراب وحساب الأرباح والخسائر

    مُساهمة من طرف انور رزق الأحد 16 يناير 2011 - 23:49

    مشكور على المقالة المعبرة

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد 29 سبتمبر 2024 - 12:35