العودة الى الأرض والجذور لمكافحة الغلاء
يحكى أن شيخاً مُسِناً شعر بدنوّ أجله ، فاستدعى ولده الوحيد الذي طالما كان على خلافٍ معه لأن الوالد الشيخ اتبع وصية والده في إنفاق ما ورثه عنه من كنوز على شراء الأراضي وإعمارها بينما كان الإبن يريد إنفاق المال على السياحة والسفر والملذات ، فقد ورث هذا الشيخ المسن كنوزاً ووصية من والده مفادها أن يصرف ما في هذه الكنوز من مال ومجوهرات على شراء الأراضي وإعمارها فقط ، إعمارها ليس بالبنيان العالي ، بل بزراعتها وحرثها وإصلاحها ، حيث قال له في الوصية " تركت لك هذه الكنوز من المال والمجوهرات ، ولقد جمعت هذه الثروة بعرق جبيني وأسفاري وغربتي وشقائي وكدحي من أجلك أنت ومن أجل أن أوفر لك الإستقرار في الوطن ، وأعفيك من عناء السفر والغربة والشقاء ، واوصيك يا بني أن تنفق هذا المال والمجوهرات في شراء الأراضي ، وزراعة النباتات ، واجعل من الأرض جنة في دنياك ، واحرص على تربية الحيوانات والطيور الداجنة ، وحاذر من تبديد الثروة على الملذات العابرة ، فالأرض يا بني مصدر الخير ، ومن ترابها خلقنا ، واليها سنعود صاغرين طائعين ، فرسالتنا في هذه الحياة الدنيا أن نعمر الأرض ونشكر الله بالعبادة ، وإن عمرناها وشكرنا الله فقد ملكنا كل أسباب السعادة المؤقتة في الدنيا ونلنا الرضا من الخالق ووصلنا الى تحقيق هدف السعادة الدائمة في الحياة الأخرى التي وُعِدْنا بها. واوصيك يا بني أن تعطي من يعمل معك في إعمار أرضك أجره قبل أن يجف عرقه ، وأن تطعمه من خيرات الأرض وأن تجعل له نصيباً من ريعها حتى يبارك الله لك بها ويجعل من ذلك دافعاً له يحثه على الإجتهاد في إعمارها لينال نصيبه من ريعها ، وليبعد عنك عين الحسد ، ويدعو لك الناس بالرزق ، ويحبوا لك كما يحبونه لنفوسهم ، واوصيك أن تنقل وصيتي لأبنائك وأحفادك من بعدي ، لنتواصل على هذه الأرض ، فقد ارتبطنا بها ، وألفناها وبادلتنا الحب والعطاء والخير والوفاء"
ولمّا لمس الشيخ المسن جنوح ولده الى الملذات ، وإعراضه عن الإلتصاق بالأرض التي رأى عليها النور وعاش من خيرها ، ورأى بعينه تطلعه الى الأسفار بحثاً عن الملذات أخفى عنه أماكن الكنوز ، ولكن عندما شعر بدنو أجله صار لزاماً عليه أن يخبره عن أماكنها ، وفكر الشيخ طويلاً كيف يقنع إبنه بالوصية المتوارثة وبالحفاظ على عهودها ومواثيقها والإخلاص لها ، وعدم تبديد الثروات التي تجود بها هذه الأرض المباركة ، وأراد الشيخ أن يعلم ولده درساً قاسياً يعيده الى جادّة الصواب.
قال الشيخ لولده: يا بني يبدو أن الولاية تدنو منك وستستحق لك قريباً ، وأريد أن أعطيك الخرائط التي تدلك على أماكن الكنوز كنزاً تلو الآخر وإن مت فهي في الخزنة ومفتاحها مع والدتك ، ولن أفرض عليك ما لا أضمن وفاءك له ، فأنا سألاقي ربي يوماً ما ، وأسأله وأدعو لك بطول العمر من بعدي ، وسأبدأ معك من أبعد كنز ، وها هي خارطته ، إنه في صحراء قاحلة بعيدة ، وكانت وصية جدك أن ننفق ما به من مال ومجوهرات على إصلاح هذه الصحراء البعيدة لنستفيد منها ويستفيد غيرنا من الناس من حولها. وخذ معك يا ولدي ما يكفيك من الزاد والماء ، وأسأل الله أن يهديك للخير والصلاح وأن يلهمك اتباع أوامره واجتناب نواهيه.
ركب الإبن فرسه للسفر الى الكنز ، وجهز الزاد والماء وانطلق يتتبع الخارطة بحثاً عن مكان الكنز ، وفي نفسه ونيته أن يستخرج ما به من مال ومجوهرات ويصرفه على الملذات ، فقد سنحت له الفرصة لتحقيق مآربه ، واتفق الشيخ مع مجموعة من عماله من الذين لا يعرفهم إبنه أن يجهزوا قافلة محملة بالزاد والماء ويتتبعوا الإبن في سفره دون أن يمكنوه من رؤيتهم يتبعونه ، سار الإبن طويلاً في طريقه للكنز الى أن جن عليه الليل ونعس ، فنام ليلته وبدأ يوماً جديداً الى أن جن عليه الليل مرة ثانية وثالثة ، وبدأ الزاد والماء يتناقص ولم يجد في طريقه ما يعيد به تعبئة قدوره وجرابه وقرابه بالطعام والماء ، وأخيراً وصل المكان المحدد في الخارطة وسط الصحراء القاحلة ، فربط فرسه وبدأ بالحفر في الرمل بحثاً عن الكنز ، ورابطت القافلة ترقبه دون أن يراها ، وبينما هو يحفر في شدة الحر وعرقه يتساقط من جبينه كحبات المطر ، شعر بالعطش والجوع الشديدين يطرقان باب معدته وجوفه الجافين ، وذهب الى راحلته ليطفيء عطشه ويسد رمق جوعه ، وفوجيء بأن الفرس التهمت ما تبقى من زاد وماء ، وهنا شعر بالإحباط واليأس ، وبالتعب الشديد ، فارتمى على الأرض متهالكاً من شدة العطش والجوع متضوراً ومتلوياً يصرخ بصوته عالياً وطالباً النجدة ، وهنا جاء الدور المرسوم للقافلة التي تتبع خطواته ، فمروا من جانبه وكأنهم لا يقصدونه ، فنادى عليهم مستنجداً ، ولما اقتربوا منه قالوا له ما بالك وماذا تريد ، فقال لهم أريد شربة ماء وقطعة من الخبز ليعيدا لي الحياة ، وقال له قائد القافلة : أخبرنا أولاً ماذا تفعل هنا وما سبب وجودك في هذه الصحراء القاحلة؟ فأنكر عليهم في البداية سبب وجوده ، ولكنه تحت ضغط العطش والجوع إعترف بالحقيقة ، فقال له قائد القافلة : نعطيك قربة من الماء وبضعة أرغفةٍ من الخبز مقابل أن نأخذ ما في الكنز ، وهنا تمنّع عن القبول في بداية الأمر لعله يحصل شيئاً من الكنز ، فتركوه وذهبوا وكأنهم يكملون مسيرتهم ، فقال في نفسه متسائلاً : ما فائدة المال والمجوهرات في هذه الصحراء القاسية التي تبعث فيّ نذر الموت عطشاً وجوعاً؟ فليذهب المال والمجوهرات الى الجحيم مقابل أن أحتفظ بحياتي وبقائي الى أن يحين موعدي بمشيئة الله ، فناداهم بحرقة وذل : أوافق على طلبكم ، هيا ننفذ الإتفاق وأنقذوني من براثن الموت ، فعادوا اليه وأكملوا الحفر الى أن عثروا على الكنز واستخرجوا ما به ، وحملوه على قافلتهم وهو ينظر الي الكنز بحرقة وحسرة ، وأعطوه قربة من الماء وثلاثة أرغفة من الخبز لحفظ حياته خلال عودته ومن العلف والماء ما يحفظ حياة فرسه لتعيده الى بيت والده ، واسرعت القافلة عائدة الى الشيخ المسن ، وسلمته محتويات الكنز كما اتفق معه ، وبعد مسيرة يوم عاد الإبن يجر أذيال الهزيمة لوالده ، وحكى له ما جرى له خلال الرحلة ، وأخبره بسيطرة قافلة على محتويات الكنز مقابل قربة من الماء وثلاثة أرغفة من الخبز. وهنا سأل الشيخ ابنه : قل لي يا بني ، هل اقتنعت الآن بقيمة الأرض؟ ، وهل أدركت أن الأرض أغلى ما نملك؟ ، وأنها الأبقى والأقدر وفاءً من المال والمجوهرات؟ ، وهل كان باستطاعتك العيش لولا مرور القافلة وإعطائهم لك الماء والخبز بالرغم من امتلاكك للمال والمجوهرات التي تستطيع بها شراء القصور والمباني العالية؟ يا بني إفتح هذا الصندوق واستخرج ما فيه ، ففتح الإبن الصندوق فوجده مليئاً بالمال والمجوهرات ، فبُهت الأبن وقال لأبيه : من أين هذا الكنز يا أبي ، فابتسم الأب ابتسامة الرضا والإطمئنان وأخبر إبنه عما دبره وحاكه من قصة مفتعلة لإقناعه بالوصية المتوارثة في العائلة ، وإعطائه درساً في الحياة والقيم والتراث والوطنية. وقال له هذه محتويات الكنز الذي ذهبت لأستخراجه من الصحراء القاحلة ، إنه لك يا بني ، ولكن قل لي ماذا ستفعل به ؟ فقال الإبن وهو يقبل يد والده : سأنفذ وصية جدي واستصلح الأرض التي كان بها الكنز.
كانت تلك القصة القصيرة الخيالية المقدمة لموضوع غلاء الأسعار وتكاليف الحياة الباهظة ، فقد بلغت الأسعار شأواً بعيداً أصبحت فيه الحياة شاقة وصعبة ، وأصبح المرؤ عاجزاً عن تلبية متطلباتها الباهظة التكاليف ، وهنا نتساءل عن كيفية الخروج من هذا النفق المظلم ، وكيف لنا أن نقاوم هذه الهجمة الشرسة من غلاء الحياة والمهور والغذاء والدواء ، فقد وصل الإنسان الى درجة لا يستطيع بها شراء الفاكهة والخضار ، وأصبح معها شراء اللحوم مستحيلاً. ما العمل وما الحل؟؟
للإجابة على هذه الأسئلة الملحة أتذكر أيام طفولتي وريعان شبابي ، ولدت في بداية الخمسينيان من القرن الماضي ، في أيام الفقر المدقع على كل المناطق العربية إلاّ ما ندر من طبقة الإقطاعيين والموالين للسلطات الحاكمة والمتعاونين معهم. وعندما استعرض شريط حياتي في تلك الفترة من بداية الخمسينيات الى نهاية الستينيات أكتشف أن الحل سهلٌ وأن المقاومة لهذه الهجمة الشرسة من فورة الأسعار متاحة خاصة لسكان الريف الذين يشكلون الطبقة الواسعة والمتأثرة بالغلاء وهم الغالبية من سكان فلسطين ، باستثناء سكان المخيمات الذين لا يمتلكون الأراضي وسكان المدن من الموظفين الغلابا محدودي الدخل.
كيف كانت حياتنا في ذلك الوقت؟
كنا لا نعرف فئات النقد ذات القيم العالية ، وكانت أعلى فئة نعرفها ونملكها بالكاد والجهد الجهيد والعرق المتدفق من الجباه هي فئة الدينار وما تحتها ، كنا نعرف لون فئة الخمسة دنانير والعشرة دنانير ونسمع بها ولكننا لم نمتلكها ، وكنا نعتمد بيض الدجاج كالنقد حيث كنا ننتظر الدجاجة حتى تبيض لنشتري قلماً أو محاية أو دفتراً وأما البراية فكانت من النوادر التي نراها فقط مع ابن المدير أو الأستاذ اعطاها لإبنه سلبطة من المدرسة حيث كنا نستعمل شفرة الحلاقة بعد استنفاذ طاقتها لنبري القلم ، وكنا نعتمد المقايضة (سلعة مقابل سلعة) كوسيلة للتجارة وسد الإحتياجات الضرورية ، فمثلاً كنا نحلق جميعنا أفراد العائلة عند الحلاق مقابل صاع أو أكثر من القمح بالسنة متفق عليه ، الى درجة انتشار زواج البدل لتحاشي دفع المهور نقداً ، وكذلك كنا نعتمد الرهون لسد الحاجات فمثلاً كنا نرهن زيتونة أو تينة أو قطعة من الأرض مقابل بضعة دنانير بالسنة ، وكنا نعتمد على الأرض والانعام في غذائنا ، نزرعها قمحاً وشعيراً وكرسنة وعدس وذرة في الشتاء، ونحصدها في بداية الصيف ، ونخزن القمح والعدس في الخوابي ليسد حاجتنا من الخبز والطبيخ طوال العام ، وكانت جداتنا قبل وجود مطحنة قمح في البلد تطحنه على الطاحونة الصغيرة والتي كانت ما زالت موجودة وعاصرتها لإستعمالها في حالة الطواريء مثلاً عندم تتعطل المطحنة لنفاذ الوقود ، أو أثناء حصار تساقط الثلوج والبرد والأمطار الغزيرة ، وكانت أمهاتنا تعجن الطحين في البيت ، وكان لكل بيت فرن مستقل (طابون) نخبز فيه ونشوي فيه ، وكان وقوده من روث (زبل) الحيوانات (البقر والغنم والحمير) ومن الجفت، وبعد الحصاد نزرع الأرض بالخضار (بندورة ، بطاطا ، بامية ، كوسا ، يقطين ، فقوس، بطيخ وشمام .......الخ) بما كان يعرف المقثاة ، وكنا ننشف البندورة والبامية لنستعملها في الشتاء ، وكان لكل عائلة كرم من الفواكه (عزبة) تعزب فيه بالصيف فيه (التين والعنب والخوخ والكرز والمشمش واللوز .....الخ). وكنا ننشف التين لنأكله بالشتاء (القطين) ونستخرج من العنب التطلي والعنصبيخ والملبن ، ونحفظ ورق العنب في القناني لأستعماله بالشتاء ، ونزرع الحواكير حول الدار بالبصل والثوم والفلفل والخس والسبانخ والسلق .....الخ) هذا عداك عن الخبيزة وورق اللسان والعكوب ورجل الحمامة والجعدة والمرمية والزعتر والصميدعه والبُرّيد ......الخ).. وكنا نربي الماشية كالبقر والغنم والنعاج والحمير ....الخ) ونستخرج منها طعامنا (الحليب الطازج من درة البقرة او العنزة او النعجة مباشرة الى الإستعمال للشرب دون حفظ في الثلاجة التي لم نكن نعرفها ونستخرج اللبن المخيض واللبن الجميد والجبنة والزبدة البلدية ، والصوف ، ونربي الطيور كالدجاج والحمام عدا الطيور البرية التي كنا نصطادها كالشنار والحمام البري وبعض الحيوانات كالغزلان والنيص ....الخ). هذا عداك عن مزارع الزيتون وجداد الزيتون الذي نستخرج منه الزيت والزيتون ونخزنة مئونة للصيف والشتاء ، وكنا نسننشق الهواء النقي ونشرب ماء الأمطار الذي نخزنه في الآبار ، ونستمتع بالفصول الأربعة المتعاقبة بانتظام متفاضل ومتكامل ، وبالمناظر الطبيعية الخلابة في فصل الربيع ، وبسقوط الأمطار والثلوج في فصل الشتاء ، وبالسمر والسهر في فصل الصيف ونتدفأ على حطب السويد والزعرور والبطم والخروب .....الخ).
وكنا في مواسم جني المحاصيل نذهب لسوق المدينة لبيع القمح والشعير والعدس والخضار والفواكه وبعض المنتجات الفائضة عن الحاجة لنحصل على بعض النقود لنشتري الملابس والحلويات كالحلقوم والتمر والسكر والشاي والكاز ، وكنا في أحيانٍ كثيرة لا نجد من يشتريها من التجار ، فنعود بها كما هي بخفي حنين فتذبل فنرمي بعضها وننشف الآخر أو نعمل منه المربى . كنا لا نسأل إن طبخت ربة البيت ام لم تطبخ ، نأخذ رغيف الخبز ونذهب الى الحكورة ، نقطف ثمار البندورة الطازجة والبصل الأخضر اليانع مع الجبن أواللبن ، وكنا لا نسأل عن اللحمة ، فكان العدس ولحم الطيور من الصيصان والحمام والصيد ولحم بعض المواشي الوقيع يعوضنا بالبروتينات.
في الحقيقة كانت الحياة لا تخلو من القسوة ، ولا تخلو من النضال والكفاح والعمل غير الخلاق، لأننا لم نكن نعط الأرض حقها بالإبداع في علوم الزراعة واستغلالها على أكمل وجه، فأرضنا معطاءة وولادة بما اودع فيها من بركة وخيرات، كنا نعيش على الروتين ونعل بالروتين في عملية الزراعة، فكان جميع أفراد الأسرة يعملون في البيت دون استغلال للعقل والفكر والخلق والإبداع في فنون الزراعة والمحاصيل، وفي غياب لسلطة تعلمنا الإبداع في فنون الزراعة وتنوعها والإستفادة من الأرض على مدار العام ، كل فردٍ عليه واجب ومسئولية ، سواءً كان صغيراً بلغ السادسة أو كبيراً ، من الحفيد الى الجد وما بينهما ، فقد كنا أيام العطلة المدرسية نرعى الغنم والبقر حيث نصحو من الصباح الباكر ولا نعود الا ليلاً ، نتحمل مسئولية المواشي بسقايتها من الآبار ننشل الدلو تلو الدلو ، نحصد وندرس وننقل الحصاد على الحمير ، وكنا نتحمل تقلبات الطقس من برودة الصباح الى حرارة الظهر الى برودة المساء ، كنا نمشي الى المدرسة على الأقدام لا يقل عن أربعة كيلومترات تحت المطر وتحت الحر. ولكن بالمقابل كانت حياة حافلة بالقيم والأخلاق والتآخي والنخوة والرجولة والصبر والمقاومة والتحدي ، وكانت مفعمة بالسعادة وخالية من المشاكل والهموم والأمراض ، كنا ننام بعد صلاة العشاء ونصحو عند صلاة الفجر ، نشعر بالنهار من بدايته حتى نهايته ونمارس نشاطه وحيويته ، ونسكن بالليل من بدايته الى نهايته ، لا نحمل هموم الزحمة ، ولا نفكر بالغد وما سيحمله لنا من أخبار ونذر ، ونسهر صيفاً ونتسامر ونستمتع بالأعراس والسوامر وصغيرنا يطيع كبيرنا. وهل بعد كل هذه المنظومة الغذائية المتكاملة المتفاضلة الطازجة من الأرض نحتاج شيئاً؟ لقد كنا بحاجة الى الإلمام بفنون الزراعة والإستثمار فيها وكنا بحاجة الى سلطة تدعم عملنا وجهدنا بالأرض.
نحن لا نطلب من أجيال اليوم أن تعيش زماننا وظروفنا بنفس المقاييس والمعايير والتقاليد والأعراف والعادات والطبائع والنهج ، فليحافظوا على الايجابيات ويتركوا السلبيات ، نتفهم التغيرات السريعة والمتطلبات الجديدة للحياة والزحف الحضاري بايجابياته وسلبياته ، والتطورات المتسارعة على العلم والتقنية ، ولا نطلب من الأجيال الحالية العيش في جلابيب آبائهم وأجدادهم والتقوقع في شرنقة التخلف والجمود والتصلّب كما كنا، ولكننا نطلب منهم أن يعودوا للأرض ليستلهموا منها مقاومة هجمة الغلاء الشرسة ، بالمحافظة عليها وعدم التفريط بها ، وزراعتها ليحصلوا على متطلبات أجسامهم من الفيتامينات والبروتينات والدهون والكربوهيدرات الطبيعية الطازجة، فالأرض كنز لا ينضب ، إنها كنز متجدد العطاء ، فكلما أفرغت من بطنها محصولاً حملت بآخر ، لا تمل من الكرم والعطاء ، سخية في كرمها وعطائها دون حساب ومِنّة ، فأنتم في فلسطين في أرض باركها الله بخيراتها ونباتاتها التي ورد ذكر معظمها بالقرآن الكريم ، لا يجوع فيها إنسان أو حيوان ، ولا يذبل فيها نبات إلاّ بفعل فاعل ، فقاوموا الغلاء وحاربوه بالأرض ، وذلك بالإمساك بها بالأسنان والأظافر ، والعض عليها بالنواجذ ، وإعطاءها حقها من الرعاية والتعلم، فكما تأخذون منها الكثير يجب أن تعطوها أدنى حقوقها من الإصلاح والإستصلاح، فهي سندكم القوي ، وهي إكسير حياتكم بقداستها وكرمها وجودها ، وحافظوا على وصية أجدادكم بالتمسك بالقيم والأخلاق ، والتضحية والإيثار ، وبالتراث والثقافة ، والموروثات الحسنة بحسن الجوار وتقاسم خيرات الأرض بالكرم والعطاء ، وقدوتكم في ذلك نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم حين قال "من أصبح منكم آمناً في سِربه ، مُعافىً في جسده ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدّنيا". ربما تفتقدون نعمة الأمن تحت الإحتلال ، ولكن تمسكوا بنعمة الأرض التي يحاربكم فيها الإحتلال وبالصحة لتستمدوا مقاومة الإحتلال حتى تتمكنوا من دحره بإذن الله.
عودوا الى الأرض وتمسكوا بها ، فهي كنزكم الذي لن ينضب ، وفيها جذوركم التي تمتص رحيقها من جوفها المتقد بالحنان وتدفع لأنوفكم عبق ماضيها من أعماق التاريخ المتقادم الذي يشهد معكم في ملكيتها منذ القدم ، لتوصلها الى حاضركم ليكون ماضيكم نبراساً يضيء طريقكم للمستقبل ، عودوا الى القيم والموروثات ، وحافظوا على الأصالة والعراقة ، وردوا جميل الأرض بإعمارها والتمسك بها وعلى التراث بإحيائه في كل المناسبات والتمسك بقيمه الايجابية وترك سلبياته التي ارتبطت بزمانها ولم تعد صالحة لهذا الزمان ، وندعو الله أن يثبتكم ويمدكم بنصرٍ من عنده ، إنه بكل شيءٍ عليم وعلى كل شيءٍ قدير.
بقلم أحمد ابراهيم الحاج
يحكى أن شيخاً مُسِناً شعر بدنوّ أجله ، فاستدعى ولده الوحيد الذي طالما كان على خلافٍ معه لأن الوالد الشيخ اتبع وصية والده في إنفاق ما ورثه عنه من كنوز على شراء الأراضي وإعمارها بينما كان الإبن يريد إنفاق المال على السياحة والسفر والملذات ، فقد ورث هذا الشيخ المسن كنوزاً ووصية من والده مفادها أن يصرف ما في هذه الكنوز من مال ومجوهرات على شراء الأراضي وإعمارها فقط ، إعمارها ليس بالبنيان العالي ، بل بزراعتها وحرثها وإصلاحها ، حيث قال له في الوصية " تركت لك هذه الكنوز من المال والمجوهرات ، ولقد جمعت هذه الثروة بعرق جبيني وأسفاري وغربتي وشقائي وكدحي من أجلك أنت ومن أجل أن أوفر لك الإستقرار في الوطن ، وأعفيك من عناء السفر والغربة والشقاء ، واوصيك يا بني أن تنفق هذا المال والمجوهرات في شراء الأراضي ، وزراعة النباتات ، واجعل من الأرض جنة في دنياك ، واحرص على تربية الحيوانات والطيور الداجنة ، وحاذر من تبديد الثروة على الملذات العابرة ، فالأرض يا بني مصدر الخير ، ومن ترابها خلقنا ، واليها سنعود صاغرين طائعين ، فرسالتنا في هذه الحياة الدنيا أن نعمر الأرض ونشكر الله بالعبادة ، وإن عمرناها وشكرنا الله فقد ملكنا كل أسباب السعادة المؤقتة في الدنيا ونلنا الرضا من الخالق ووصلنا الى تحقيق هدف السعادة الدائمة في الحياة الأخرى التي وُعِدْنا بها. واوصيك يا بني أن تعطي من يعمل معك في إعمار أرضك أجره قبل أن يجف عرقه ، وأن تطعمه من خيرات الأرض وأن تجعل له نصيباً من ريعها حتى يبارك الله لك بها ويجعل من ذلك دافعاً له يحثه على الإجتهاد في إعمارها لينال نصيبه من ريعها ، وليبعد عنك عين الحسد ، ويدعو لك الناس بالرزق ، ويحبوا لك كما يحبونه لنفوسهم ، واوصيك أن تنقل وصيتي لأبنائك وأحفادك من بعدي ، لنتواصل على هذه الأرض ، فقد ارتبطنا بها ، وألفناها وبادلتنا الحب والعطاء والخير والوفاء"
ولمّا لمس الشيخ المسن جنوح ولده الى الملذات ، وإعراضه عن الإلتصاق بالأرض التي رأى عليها النور وعاش من خيرها ، ورأى بعينه تطلعه الى الأسفار بحثاً عن الملذات أخفى عنه أماكن الكنوز ، ولكن عندما شعر بدنو أجله صار لزاماً عليه أن يخبره عن أماكنها ، وفكر الشيخ طويلاً كيف يقنع إبنه بالوصية المتوارثة وبالحفاظ على عهودها ومواثيقها والإخلاص لها ، وعدم تبديد الثروات التي تجود بها هذه الأرض المباركة ، وأراد الشيخ أن يعلم ولده درساً قاسياً يعيده الى جادّة الصواب.
قال الشيخ لولده: يا بني يبدو أن الولاية تدنو منك وستستحق لك قريباً ، وأريد أن أعطيك الخرائط التي تدلك على أماكن الكنوز كنزاً تلو الآخر وإن مت فهي في الخزنة ومفتاحها مع والدتك ، ولن أفرض عليك ما لا أضمن وفاءك له ، فأنا سألاقي ربي يوماً ما ، وأسأله وأدعو لك بطول العمر من بعدي ، وسأبدأ معك من أبعد كنز ، وها هي خارطته ، إنه في صحراء قاحلة بعيدة ، وكانت وصية جدك أن ننفق ما به من مال ومجوهرات على إصلاح هذه الصحراء البعيدة لنستفيد منها ويستفيد غيرنا من الناس من حولها. وخذ معك يا ولدي ما يكفيك من الزاد والماء ، وأسأل الله أن يهديك للخير والصلاح وأن يلهمك اتباع أوامره واجتناب نواهيه.
ركب الإبن فرسه للسفر الى الكنز ، وجهز الزاد والماء وانطلق يتتبع الخارطة بحثاً عن مكان الكنز ، وفي نفسه ونيته أن يستخرج ما به من مال ومجوهرات ويصرفه على الملذات ، فقد سنحت له الفرصة لتحقيق مآربه ، واتفق الشيخ مع مجموعة من عماله من الذين لا يعرفهم إبنه أن يجهزوا قافلة محملة بالزاد والماء ويتتبعوا الإبن في سفره دون أن يمكنوه من رؤيتهم يتبعونه ، سار الإبن طويلاً في طريقه للكنز الى أن جن عليه الليل ونعس ، فنام ليلته وبدأ يوماً جديداً الى أن جن عليه الليل مرة ثانية وثالثة ، وبدأ الزاد والماء يتناقص ولم يجد في طريقه ما يعيد به تعبئة قدوره وجرابه وقرابه بالطعام والماء ، وأخيراً وصل المكان المحدد في الخارطة وسط الصحراء القاحلة ، فربط فرسه وبدأ بالحفر في الرمل بحثاً عن الكنز ، ورابطت القافلة ترقبه دون أن يراها ، وبينما هو يحفر في شدة الحر وعرقه يتساقط من جبينه كحبات المطر ، شعر بالعطش والجوع الشديدين يطرقان باب معدته وجوفه الجافين ، وذهب الى راحلته ليطفيء عطشه ويسد رمق جوعه ، وفوجيء بأن الفرس التهمت ما تبقى من زاد وماء ، وهنا شعر بالإحباط واليأس ، وبالتعب الشديد ، فارتمى على الأرض متهالكاً من شدة العطش والجوع متضوراً ومتلوياً يصرخ بصوته عالياً وطالباً النجدة ، وهنا جاء الدور المرسوم للقافلة التي تتبع خطواته ، فمروا من جانبه وكأنهم لا يقصدونه ، فنادى عليهم مستنجداً ، ولما اقتربوا منه قالوا له ما بالك وماذا تريد ، فقال لهم أريد شربة ماء وقطعة من الخبز ليعيدا لي الحياة ، وقال له قائد القافلة : أخبرنا أولاً ماذا تفعل هنا وما سبب وجودك في هذه الصحراء القاحلة؟ فأنكر عليهم في البداية سبب وجوده ، ولكنه تحت ضغط العطش والجوع إعترف بالحقيقة ، فقال له قائد القافلة : نعطيك قربة من الماء وبضعة أرغفةٍ من الخبز مقابل أن نأخذ ما في الكنز ، وهنا تمنّع عن القبول في بداية الأمر لعله يحصل شيئاً من الكنز ، فتركوه وذهبوا وكأنهم يكملون مسيرتهم ، فقال في نفسه متسائلاً : ما فائدة المال والمجوهرات في هذه الصحراء القاسية التي تبعث فيّ نذر الموت عطشاً وجوعاً؟ فليذهب المال والمجوهرات الى الجحيم مقابل أن أحتفظ بحياتي وبقائي الى أن يحين موعدي بمشيئة الله ، فناداهم بحرقة وذل : أوافق على طلبكم ، هيا ننفذ الإتفاق وأنقذوني من براثن الموت ، فعادوا اليه وأكملوا الحفر الى أن عثروا على الكنز واستخرجوا ما به ، وحملوه على قافلتهم وهو ينظر الي الكنز بحرقة وحسرة ، وأعطوه قربة من الماء وثلاثة أرغفة من الخبز لحفظ حياته خلال عودته ومن العلف والماء ما يحفظ حياة فرسه لتعيده الى بيت والده ، واسرعت القافلة عائدة الى الشيخ المسن ، وسلمته محتويات الكنز كما اتفق معه ، وبعد مسيرة يوم عاد الإبن يجر أذيال الهزيمة لوالده ، وحكى له ما جرى له خلال الرحلة ، وأخبره بسيطرة قافلة على محتويات الكنز مقابل قربة من الماء وثلاثة أرغفة من الخبز. وهنا سأل الشيخ ابنه : قل لي يا بني ، هل اقتنعت الآن بقيمة الأرض؟ ، وهل أدركت أن الأرض أغلى ما نملك؟ ، وأنها الأبقى والأقدر وفاءً من المال والمجوهرات؟ ، وهل كان باستطاعتك العيش لولا مرور القافلة وإعطائهم لك الماء والخبز بالرغم من امتلاكك للمال والمجوهرات التي تستطيع بها شراء القصور والمباني العالية؟ يا بني إفتح هذا الصندوق واستخرج ما فيه ، ففتح الإبن الصندوق فوجده مليئاً بالمال والمجوهرات ، فبُهت الأبن وقال لأبيه : من أين هذا الكنز يا أبي ، فابتسم الأب ابتسامة الرضا والإطمئنان وأخبر إبنه عما دبره وحاكه من قصة مفتعلة لإقناعه بالوصية المتوارثة في العائلة ، وإعطائه درساً في الحياة والقيم والتراث والوطنية. وقال له هذه محتويات الكنز الذي ذهبت لأستخراجه من الصحراء القاحلة ، إنه لك يا بني ، ولكن قل لي ماذا ستفعل به ؟ فقال الإبن وهو يقبل يد والده : سأنفذ وصية جدي واستصلح الأرض التي كان بها الكنز.
كانت تلك القصة القصيرة الخيالية المقدمة لموضوع غلاء الأسعار وتكاليف الحياة الباهظة ، فقد بلغت الأسعار شأواً بعيداً أصبحت فيه الحياة شاقة وصعبة ، وأصبح المرؤ عاجزاً عن تلبية متطلباتها الباهظة التكاليف ، وهنا نتساءل عن كيفية الخروج من هذا النفق المظلم ، وكيف لنا أن نقاوم هذه الهجمة الشرسة من غلاء الحياة والمهور والغذاء والدواء ، فقد وصل الإنسان الى درجة لا يستطيع بها شراء الفاكهة والخضار ، وأصبح معها شراء اللحوم مستحيلاً. ما العمل وما الحل؟؟
للإجابة على هذه الأسئلة الملحة أتذكر أيام طفولتي وريعان شبابي ، ولدت في بداية الخمسينيان من القرن الماضي ، في أيام الفقر المدقع على كل المناطق العربية إلاّ ما ندر من طبقة الإقطاعيين والموالين للسلطات الحاكمة والمتعاونين معهم. وعندما استعرض شريط حياتي في تلك الفترة من بداية الخمسينيات الى نهاية الستينيات أكتشف أن الحل سهلٌ وأن المقاومة لهذه الهجمة الشرسة من فورة الأسعار متاحة خاصة لسكان الريف الذين يشكلون الطبقة الواسعة والمتأثرة بالغلاء وهم الغالبية من سكان فلسطين ، باستثناء سكان المخيمات الذين لا يمتلكون الأراضي وسكان المدن من الموظفين الغلابا محدودي الدخل.
كيف كانت حياتنا في ذلك الوقت؟
كنا لا نعرف فئات النقد ذات القيم العالية ، وكانت أعلى فئة نعرفها ونملكها بالكاد والجهد الجهيد والعرق المتدفق من الجباه هي فئة الدينار وما تحتها ، كنا نعرف لون فئة الخمسة دنانير والعشرة دنانير ونسمع بها ولكننا لم نمتلكها ، وكنا نعتمد بيض الدجاج كالنقد حيث كنا ننتظر الدجاجة حتى تبيض لنشتري قلماً أو محاية أو دفتراً وأما البراية فكانت من النوادر التي نراها فقط مع ابن المدير أو الأستاذ اعطاها لإبنه سلبطة من المدرسة حيث كنا نستعمل شفرة الحلاقة بعد استنفاذ طاقتها لنبري القلم ، وكنا نعتمد المقايضة (سلعة مقابل سلعة) كوسيلة للتجارة وسد الإحتياجات الضرورية ، فمثلاً كنا نحلق جميعنا أفراد العائلة عند الحلاق مقابل صاع أو أكثر من القمح بالسنة متفق عليه ، الى درجة انتشار زواج البدل لتحاشي دفع المهور نقداً ، وكذلك كنا نعتمد الرهون لسد الحاجات فمثلاً كنا نرهن زيتونة أو تينة أو قطعة من الأرض مقابل بضعة دنانير بالسنة ، وكنا نعتمد على الأرض والانعام في غذائنا ، نزرعها قمحاً وشعيراً وكرسنة وعدس وذرة في الشتاء، ونحصدها في بداية الصيف ، ونخزن القمح والعدس في الخوابي ليسد حاجتنا من الخبز والطبيخ طوال العام ، وكانت جداتنا قبل وجود مطحنة قمح في البلد تطحنه على الطاحونة الصغيرة والتي كانت ما زالت موجودة وعاصرتها لإستعمالها في حالة الطواريء مثلاً عندم تتعطل المطحنة لنفاذ الوقود ، أو أثناء حصار تساقط الثلوج والبرد والأمطار الغزيرة ، وكانت أمهاتنا تعجن الطحين في البيت ، وكان لكل بيت فرن مستقل (طابون) نخبز فيه ونشوي فيه ، وكان وقوده من روث (زبل) الحيوانات (البقر والغنم والحمير) ومن الجفت، وبعد الحصاد نزرع الأرض بالخضار (بندورة ، بطاطا ، بامية ، كوسا ، يقطين ، فقوس، بطيخ وشمام .......الخ) بما كان يعرف المقثاة ، وكنا ننشف البندورة والبامية لنستعملها في الشتاء ، وكان لكل عائلة كرم من الفواكه (عزبة) تعزب فيه بالصيف فيه (التين والعنب والخوخ والكرز والمشمش واللوز .....الخ). وكنا ننشف التين لنأكله بالشتاء (القطين) ونستخرج من العنب التطلي والعنصبيخ والملبن ، ونحفظ ورق العنب في القناني لأستعماله بالشتاء ، ونزرع الحواكير حول الدار بالبصل والثوم والفلفل والخس والسبانخ والسلق .....الخ) هذا عداك عن الخبيزة وورق اللسان والعكوب ورجل الحمامة والجعدة والمرمية والزعتر والصميدعه والبُرّيد ......الخ).. وكنا نربي الماشية كالبقر والغنم والنعاج والحمير ....الخ) ونستخرج منها طعامنا (الحليب الطازج من درة البقرة او العنزة او النعجة مباشرة الى الإستعمال للشرب دون حفظ في الثلاجة التي لم نكن نعرفها ونستخرج اللبن المخيض واللبن الجميد والجبنة والزبدة البلدية ، والصوف ، ونربي الطيور كالدجاج والحمام عدا الطيور البرية التي كنا نصطادها كالشنار والحمام البري وبعض الحيوانات كالغزلان والنيص ....الخ). هذا عداك عن مزارع الزيتون وجداد الزيتون الذي نستخرج منه الزيت والزيتون ونخزنة مئونة للصيف والشتاء ، وكنا نسننشق الهواء النقي ونشرب ماء الأمطار الذي نخزنه في الآبار ، ونستمتع بالفصول الأربعة المتعاقبة بانتظام متفاضل ومتكامل ، وبالمناظر الطبيعية الخلابة في فصل الربيع ، وبسقوط الأمطار والثلوج في فصل الشتاء ، وبالسمر والسهر في فصل الصيف ونتدفأ على حطب السويد والزعرور والبطم والخروب .....الخ).
وكنا في مواسم جني المحاصيل نذهب لسوق المدينة لبيع القمح والشعير والعدس والخضار والفواكه وبعض المنتجات الفائضة عن الحاجة لنحصل على بعض النقود لنشتري الملابس والحلويات كالحلقوم والتمر والسكر والشاي والكاز ، وكنا في أحيانٍ كثيرة لا نجد من يشتريها من التجار ، فنعود بها كما هي بخفي حنين فتذبل فنرمي بعضها وننشف الآخر أو نعمل منه المربى . كنا لا نسأل إن طبخت ربة البيت ام لم تطبخ ، نأخذ رغيف الخبز ونذهب الى الحكورة ، نقطف ثمار البندورة الطازجة والبصل الأخضر اليانع مع الجبن أواللبن ، وكنا لا نسأل عن اللحمة ، فكان العدس ولحم الطيور من الصيصان والحمام والصيد ولحم بعض المواشي الوقيع يعوضنا بالبروتينات.
في الحقيقة كانت الحياة لا تخلو من القسوة ، ولا تخلو من النضال والكفاح والعمل غير الخلاق، لأننا لم نكن نعط الأرض حقها بالإبداع في علوم الزراعة واستغلالها على أكمل وجه، فأرضنا معطاءة وولادة بما اودع فيها من بركة وخيرات، كنا نعيش على الروتين ونعل بالروتين في عملية الزراعة، فكان جميع أفراد الأسرة يعملون في البيت دون استغلال للعقل والفكر والخلق والإبداع في فنون الزراعة والمحاصيل، وفي غياب لسلطة تعلمنا الإبداع في فنون الزراعة وتنوعها والإستفادة من الأرض على مدار العام ، كل فردٍ عليه واجب ومسئولية ، سواءً كان صغيراً بلغ السادسة أو كبيراً ، من الحفيد الى الجد وما بينهما ، فقد كنا أيام العطلة المدرسية نرعى الغنم والبقر حيث نصحو من الصباح الباكر ولا نعود الا ليلاً ، نتحمل مسئولية المواشي بسقايتها من الآبار ننشل الدلو تلو الدلو ، نحصد وندرس وننقل الحصاد على الحمير ، وكنا نتحمل تقلبات الطقس من برودة الصباح الى حرارة الظهر الى برودة المساء ، كنا نمشي الى المدرسة على الأقدام لا يقل عن أربعة كيلومترات تحت المطر وتحت الحر. ولكن بالمقابل كانت حياة حافلة بالقيم والأخلاق والتآخي والنخوة والرجولة والصبر والمقاومة والتحدي ، وكانت مفعمة بالسعادة وخالية من المشاكل والهموم والأمراض ، كنا ننام بعد صلاة العشاء ونصحو عند صلاة الفجر ، نشعر بالنهار من بدايته حتى نهايته ونمارس نشاطه وحيويته ، ونسكن بالليل من بدايته الى نهايته ، لا نحمل هموم الزحمة ، ولا نفكر بالغد وما سيحمله لنا من أخبار ونذر ، ونسهر صيفاً ونتسامر ونستمتع بالأعراس والسوامر وصغيرنا يطيع كبيرنا. وهل بعد كل هذه المنظومة الغذائية المتكاملة المتفاضلة الطازجة من الأرض نحتاج شيئاً؟ لقد كنا بحاجة الى الإلمام بفنون الزراعة والإستثمار فيها وكنا بحاجة الى سلطة تدعم عملنا وجهدنا بالأرض.
نحن لا نطلب من أجيال اليوم أن تعيش زماننا وظروفنا بنفس المقاييس والمعايير والتقاليد والأعراف والعادات والطبائع والنهج ، فليحافظوا على الايجابيات ويتركوا السلبيات ، نتفهم التغيرات السريعة والمتطلبات الجديدة للحياة والزحف الحضاري بايجابياته وسلبياته ، والتطورات المتسارعة على العلم والتقنية ، ولا نطلب من الأجيال الحالية العيش في جلابيب آبائهم وأجدادهم والتقوقع في شرنقة التخلف والجمود والتصلّب كما كنا، ولكننا نطلب منهم أن يعودوا للأرض ليستلهموا منها مقاومة هجمة الغلاء الشرسة ، بالمحافظة عليها وعدم التفريط بها ، وزراعتها ليحصلوا على متطلبات أجسامهم من الفيتامينات والبروتينات والدهون والكربوهيدرات الطبيعية الطازجة، فالأرض كنز لا ينضب ، إنها كنز متجدد العطاء ، فكلما أفرغت من بطنها محصولاً حملت بآخر ، لا تمل من الكرم والعطاء ، سخية في كرمها وعطائها دون حساب ومِنّة ، فأنتم في فلسطين في أرض باركها الله بخيراتها ونباتاتها التي ورد ذكر معظمها بالقرآن الكريم ، لا يجوع فيها إنسان أو حيوان ، ولا يذبل فيها نبات إلاّ بفعل فاعل ، فقاوموا الغلاء وحاربوه بالأرض ، وذلك بالإمساك بها بالأسنان والأظافر ، والعض عليها بالنواجذ ، وإعطاءها حقها من الرعاية والتعلم، فكما تأخذون منها الكثير يجب أن تعطوها أدنى حقوقها من الإصلاح والإستصلاح، فهي سندكم القوي ، وهي إكسير حياتكم بقداستها وكرمها وجودها ، وحافظوا على وصية أجدادكم بالتمسك بالقيم والأخلاق ، والتضحية والإيثار ، وبالتراث والثقافة ، والموروثات الحسنة بحسن الجوار وتقاسم خيرات الأرض بالكرم والعطاء ، وقدوتكم في ذلك نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم حين قال "من أصبح منكم آمناً في سِربه ، مُعافىً في جسده ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدّنيا". ربما تفتقدون نعمة الأمن تحت الإحتلال ، ولكن تمسكوا بنعمة الأرض التي يحاربكم فيها الإحتلال وبالصحة لتستمدوا مقاومة الإحتلال حتى تتمكنوا من دحره بإذن الله.
عودوا الى الأرض وتمسكوا بها ، فهي كنزكم الذي لن ينضب ، وفيها جذوركم التي تمتص رحيقها من جوفها المتقد بالحنان وتدفع لأنوفكم عبق ماضيها من أعماق التاريخ المتقادم الذي يشهد معكم في ملكيتها منذ القدم ، لتوصلها الى حاضركم ليكون ماضيكم نبراساً يضيء طريقكم للمستقبل ، عودوا الى القيم والموروثات ، وحافظوا على الأصالة والعراقة ، وردوا جميل الأرض بإعمارها والتمسك بها وعلى التراث بإحيائه في كل المناسبات والتمسك بقيمه الايجابية وترك سلبياته التي ارتبطت بزمانها ولم تعد صالحة لهذا الزمان ، وندعو الله أن يثبتكم ويمدكم بنصرٍ من عنده ، إنه بكل شيءٍ عليم وعلى كل شيءٍ قدير.
بقلم أحمد ابراهيم الحاج
الأربعاء 20 نوفمبر 2024 - 20:54 من طرف جنى ميرو
» صيانة سخانات في دبي 0543747022 emiratefix.com
الأربعاء 20 نوفمبر 2024 - 19:53 من طرف جنى ميرو
» تركيب و تصليح سخانات مركزية في عجمان 0543747022
السبت 16 نوفمبر 2024 - 23:43 من طرف جنى ميرو
» تركيب و تصليح سخانات مركزية في عجمان 0543747022
السبت 16 نوفمبر 2024 - 23:11 من طرف جنى ميرو
» تصليح أفران في دبي 0543747022 emiratefix.com
السبت 16 نوفمبر 2024 - 22:15 من طرف جنى ميرو
» تصليح أفران في دبي 0543747022 emiratefix.com
السبت 16 نوفمبر 2024 - 22:11 من طرف جنى ميرو
» تصليح ثلاجات في دبي emiratefix.com 0543747022
السبت 16 نوفمبر 2024 - 0:11 من طرف جنى ميرو
» تصليح سخانات في دبي - 0543747022 (الشمسية و المركزية) emiratefix.com
الجمعة 15 نوفمبر 2024 - 20:33 من طرف جنى ميرو
» تركيب و تصليح سخانات مركزية في الشارقة 0543747022
الأربعاء 13 نوفمبر 2024 - 21:30 من طرف جنى ميرو
» اداة ذكاء اصطناعي للباحثين وطلاب الدراسات العليا
الجمعة 26 أبريل 2024 - 11:23 من طرف Abd