آمنة وخليل/الجزء الحادي عشر
............................................
في لقائهما بالكرم وعلى ضفتي السنسلة الفاصلة بينهما كالعادة ، أخبرت آمنة خليلاً بأنها وأهلها سيسافرون في جولة تمتد لشهر أو أكثر لزيارة أقاربهم في الشتات الفلسطيني في بعض الدول العربية ، وسيزورون عمان وسوريا ولبنان ، فوجيء خليل بالخبر لكنه قال لها: صحيح خبريني عن أقاربك يا آمنة ، فقالت له : إن الحديث عنهم سيطول لأنهم كثر ، ولكنني سأوجع رأسك بذلك ، ألديك الاستعداد؟ فقال لها "كلي آذانٌ صاغية خذي راحتك ، وهل سألاقي أجمل من هذه اللحظات قبل الوداع ثم الفراق؟ واتمنى أن يطول حديثك الى الصباح ، فقالت له :أي تخنتها هيك يا ابو الخل ، صه واستمع ولا تنبس ببنت شفة ، ولا تقاطعني أيها الفتى ، وأظن أنك لن تستطيع معي صبرا :
لي خمسة أعمام وأربعة عمات تشتتوا في نواحي الأرض وانتشروا على النحو التالي:
أولاً: عمّي الكبير الشهيد عبد الرحيم ، الله يرحمه ، استشهد في ثورة 1936م ، وهاجرت زوجته وأولاده (ثلاثة أولاد وبنت) مع أهلها من بلدة صفورية واستقروا في لبنان في مخيم يرج البراجنة. وإبنه الكبير سامي أكمل الثانوية وهاجر لأمريكا ليشتغل ويصرف على العائلة التي لم يكن لها معيلاً الاّ كرت المؤن. ويقولون أنهم عانوا كثيراً من الفقر والبطالة والحرمان في بداية الهجرة وذاقوا الأمرين ، مما اضطر ابن عمي سامي أن لا يكمل دراسته الجامعية بالرغم من تفوقه ويهاجر للعمل في أمريكا ، ويقولون انه الآن أكمل دراسته وهو يعمل وتحسن وضعه المادي وصار فوق الريح. وأصبح رجل أعمال ، ونظراً لثروته واستتثماراته الكبيرة في لبنان ، فقد منحته الحكومة اللبنانية الجنسية اللبنانية وتزوج من فتاة لبنانية كانت قد فازت بملكة جمال لبنان. وانتقلوا من المخيم الى الجبل حيث بنى قصراً فخماً. وطبعاً لازم نشوفهم ، ويمكن ما نقدر نشوف سامي لأنوّ كل يوم ببلد.
ثانياً : عمّي عبد الرحمن هاجر هو وعائلته الى عمان واستقر هناك في مخيم الحسين ، ويقولون أنه أصبح من تجار عمان الكبار ، ولكنه بخيل وما بطلع من ريشه ريش. حتى ظل قاعد في المخيم وكان باستطاعته أن يبني بيتاً ويرتاح من حياة المخيمات المضغوطة ، ايش بيقول "مطرح ما بترزق إلزق" ، وفوق هذا ما كان يساعد عمتي الأرملة زوجة الشهيد اليّ أنا درست عندها في الدهيشة إذا متذكر ، واليّ استشهد زوجها الله يرحمه مع عمي الشهيد عبد الرحيم في ثورة 1936م. وبصراحة أنا وماما بنتضايق كثير يوم بنروح عندهم ، كلهم غرفتين صغار ما بوسعوهم وقاعدين على بعض مثل السردين. وكمان أولاده وبناته بعيد عنك دمهم ثقيل ما بنسجم معاهم وماما ومرة عمي ما بيطيقوا بعض. وهنا انفرجت أسارير خليل وطمأنه ذلك من خشيته عليها من زواج الأقارب والذي كان سائداً في ذلك العصر. وقال لها "الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف."
ثالثاً : عمّي محمود هاجر مع عائلته للأردن وبعد ذلك سافر للعمل بالسعودية كمترجم في وزارة الدفاع ، لأنه كان يجيد اللغة الإنجليزية ، ولحقت به عائلته ويقولون أنه حصل على الجنسية السعودية ، وسيأتي هذا الصيف هو وعائلته الى عمان بسيارته الشفرليه الطويلة كما قال لي والدي ، وسنقابلهم هناك ، وأنا سأراه أول مرة منذ النكبة. وكم أنا مشتاقة لرؤيته والتعرف على زوجته وأولاده وبناته. ورح يستأجر بيت كبير في عمان خلال الإجازة ورح ننزل عندهم ، وما رح ننزل عند دار عمي عبد الرحمن البخيل "ابو كرته" والاّ ابو كمونة على رأي المثل.
رابعاً : عمي حسن هاجر الى سوريا ويسكن مع عائلته في مخيم اليرموك بدمشق ، وسنزورهم مع دار عمي محمود ، ويقولون أن أوضاعهم جيدة ويعيشون متساوين بالحقوق مع السوريين وهو يعمل مدرساً بوكالة الغوث ، وأولاده يدرسون بالجامعات السورية مثلهم مثل السوريين. وأنا نفسي أشوف دمشق والشام. وهذا عمي حسن طيب وكريم كثير ، وكمان فنقري وبحب شمات الهوا والإنبساط ، وأكيد رح ننبسط عندهم كثير.
خامساً : عمّي حسين هاجر مع عائلته الى العراق وبصراحة ما عندي معلومات كثير عنهم ، بس بيقولوا أوضاعهم المادية جيدة جداً ، وهو بشتغل ضابط كبير بالجيش العراقي لأنو كان حزبي ، وأولاده بدرسوا بالجامعات العراقية بعثات على حساب الحكومة ، وأنا ما شفته من يوم النكبة ولا بعرف أولاده وبناته. وأبوي بيقول العلاقات بين العراق والأردن سيئة بعد الإنقلاب على الهاشميين سنة 1958م واليّ كان فيه عمّي حسين في الجيش ضابط من أعضاء القيادة القومية والقطرية ، وما رح نروح العراق ، خايف إذا رجعنا من هناك نتعرض للمساءلة من حكومة الأردن.
أما عماتي الأربعة فتشتتوا على النحو التالي:
اولاً : عمتي صفية زوجة الشهيد اليّ ساكنة في مخيم الدهيشة ، سمعت عنها طبعاً ، عندها ولدين وثلاث بنات. وإبنها الكبير تخرج من معهد قلندية بالقدس وسافر للكويت يشتغل في شركة الكهرباء وصارت أوضاعهم المادية والمعيشية جيدة ، واشترى أرض في بيت جالا ، وبدهم يبنوا فيها ويطلعوا من المخيم عن قريب. وعمتي هذي إلها معزة خاصة عندي لأنها احتضنتني أثناء دراستي للمرحلة الإعدادية وكأنها أمي ، وبعدين صحبة هي وماما كثير.
ثانياً : عمتي لطيفة كانت متزوجة واحد من بيت دجن وهاجرت معاه الى الأردن ، وبعدين راحوا واستقروا بمصر لأنوّ مثل ما بحكي أبوي جوز عمتي كان ناصري ومقرب من الحكومة المصرية ، وعايش هناك وأوضاعهم جيدة ، وما رح نقدر نشوفهم بهذي الرحلة لأن العلاقات بين الأردن ومصر متوترة كثير ومش ناقصين وجع راس. وأولاده وبناته بدرسوا بالجامعات المصرية كلهم بعثات على حساب الحكومة المصرية . وهو بشتغل صحفي في جريدة مصرية.
ثالثاً : عمتي شكرية متزوجة واحد من العباسية ، وهاجروا الى الأردن واستقروا بمخيم الوحدات وجوزها بشتغل في ليبيا مقاول ، وبنوا بيت في الأشرفية في عمان وطلعوا من المخيم ، وإن شاء الله رح نشوفهم بعمان إذا إجو إجازة. وبيقولوا أوضاعهم جيدة وماشي الحال.
رابعاً : عمتي عايشة ظلت بالبلاد مع جوزها وأولادها ، ولكن اليهود بعد ما دمروا بلدنا ومسحوا معالمها هجروهم الى إحدى قرى الجليل ، ودايماً بنسمع صوتها وأخبارها في برنامج "رسائل العرب الإسرائيليين الى ذويهم في الخارج" من إذاعة اسرائيل.
والآن انتهينا من عمامي وعماتي ، بنيجي لخوالي الأربعة وخالاتي الستة ، مش إنت سألت وبدك تعرف ، تحمل قرقرة وكثرة حكي.
اولاً : خالي رفيق هاجر مع عائلته الى غزة ويسكن مخيم الشاطيء ، وطبعاً غزة تابعة لمصر ، والإتصالات مقطوعة بينا وبينهم ، وما شفتهم من يوم النكبة ، وأحياناً بشوف أمي قاعدة بتبكي وتتذكر خالي رفيق وخوالي وخالاتي وبالأخص خالي رفيق شو كان طيب معاها. وأولاده وبناته بدرسوا بالجامعات المصرية مثلهم مثل المصريين وأحسن.
ثانياً : خالي توفيق هاجر الى لبنان وسكن مخيم عين الحلوة ، وبعد لبنان ومن ضيق الحال طفش وهاجر الى البرازيل ، وبعد سنتين أخذ زوجته وأولاده معاه للبرازيل، ومن يومها ماما ما بتسمع عنهم إشي. وقديش متشوقة لرسالة والاّ خبر عنهم ، وبتعزي نفسها وبتقول في الأخير " الغايب حجته معاه ، الله يسهل عليهم".
ثالثاً : خالي شفيق هاجر مع عائلته الى سوريا ، ويعمل ضابطاً بالجيش السوري ، ويسكن بمنطقة المهاجرين بدمشق بفيلا ، وبيقولوا بحكم وبرسم هناك ، ترى خالي هذا كان وما زال حزبي مثل عمي حسين ، وإن شاء الله رح نشوفهم لما نروح سوريا ، وأوضاعهم جيدة جداً. وخلفته كلها بنات ، عندو سبع بنات ، بس حلوين كثير وفي وحدة منهم ممثلة مسرح ناجحة كثير. وطبعاً بناته درسوا وبدرسوا بالجامعات السورية مثل السوريين وبنافسوا على الوظائف الحكومية مثل السوريين.
رابعاً : خالي جميل ، هذا أفلح واحد في العيلة ، طلع صغير وعزابي وكمل توجيهي في الأردن ، وجاب من الأوائل ، وبدرس حالياً طب في الجامعة الأمريكية ببيروت على حساب وكالة الغوث ، ورح نشوفو ببيروت ونحضر حفل تخرجه السنة ، وهذا إليّ خلاّ إمي تضغط على ابوي من شان نسافر هالرحلة الطويلة ، بدها تفرح وتتباهى بأخوها الدكتور جميل.
أخذ خليل بالتثاؤب حيث مال عليهم الظل بعد زوال الشمس من كبد السماء ، وهبت نسمات باردة نسبياً ، فضحكت آمنة وقالت له : ألم أقل لك أنك لن تستطيع معي صبرا ، فقال لها : سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري يا آمنة ، أكملي فإنه حديث محزن ومشوق في نفس الوقت ، حقاً إنها الدراما والتراجيديا بعينها في قصة هذا الشعب المنكوب ، واسمحي لي أن أهمس لك وأقول: رب ضارة نافعة ، والله هالشتات دفع الناس للعلم وصارت أحوالهم المادية والمعيشية والتعليمية أحسن من أحوالنا إحنا اليّ قاعدين بالبلاد ، لأنهم فقدوا المرجعية الجغرافية الوطنية والإجتماعية. وفي حالة جور الزمان عليهم لم يتبق لهم سلاحٌ لخوض معركة الحياة الاّ العلم والإبداع ، إنهم مكافحون ومناضلون في هذه الحياة أينما وجدوا. وبصراحة فقد دبت فيّ الغيرة على أهل القرية والمنطقة ، وسأجند نفسي لدعوتهم للعلم والخروج من قوقع الراحة بعد الحصاد والدرس ، وسأقود ثورة على الواقع التعليمي الراهن وعلى الثقافة السائدة ، هات ما تبقى لديك وناوليني شربة من الماء فقد نفذ الماء الذي لدي وأكملي بعد أن أشرب ، فقد نشف ريقي. وأحضرت له الماء وأكملت آمنة عن شتات خالاتها وقالت:
أولاً: خالتي رابعة هاجرت مع زوجها وأولادها وبناتها الى الضفة الغربية وسكنوا مخيم طولكرم ، ولزوجها محلات بقالة كبيرة بالمخيم وأوضاعهم المادية جيدة ، وقد اشترى أرضاً في بلدة عنبتا وينوي البناء فيها قريباً ، ولهم ابن يدرس في مصر وآخر في سوريا ، وآخر بمعهد خضوري ، وبنتهم الوحيدة تخرجت من معهد معلمات الوكالة وتزوجت من مدير البنك العربي فرع نابلس.
ثانياً : خالتي سعاد ، هذي حكايتها حكاية ، وما بتستاهل اليّ جرى لها أبداً ، كانت متزوجة واحد من الثوار ، ولأسباب شخصية وثأرية عائلية وشى به بعض المغرضين لقيادة الثورة واتهموه بالتعامل مع اليهود والخيانة ، وكان كما قال أبي بريئاً من هذه التهمة ، ولم يتم التحقق من صحة الوشاية من قبل الثوار ، فأمسكوا به ، وقيدوه ورموا به في بئر سحيق في الخلاء ليلاقي حتفه ببطء ، وجاءت دورية يهودية وسمعت صوت استغاثة وأنين يخرج من باطن الأرض ، فأخرجوه من البئر وهو على شفير الهاوية ينتظر الموت حياً ، واستمالوه وأغروه ، وفي ردة فعل عنيفة مضادة للفعل الذي وقع عليه ظلماً صار يشتغل لصالح اليهود ويتعامل معهم رسمياً ، ويشتغل بالإذاعة الإسرائيلية ، فهجرته خالتي وطلقها وتزوج يهودية ، وتعيش خالتي الآن في الأراضي المحتلة مع أولادها ، ولا نسمع عنها الكثير بالرغم من مراسلتنا لها عبر الصليب الأحمر، ومتابعة الإذاعة الإسرائلية لعلها تتحدث في برنامج رسائل العرب الإسرائليين الى ذويهم في الخارج. يقولون أنها تسكن في أم الفحم بعد تهجيرها من قريتنا ، والله أعلم.
ثالثاً: خالتي فتحية هاجرت مع زوجها وأولادها وبناتها الى لبنان وسكنوا مخيم نهر البارد في لبنان ، وتوفي زوجها بعد الهجرة بأربع سنين ، وهي تعمل مدرسة بوكالة الغوث في مدارس الوكالة بلبنان وتعيل أبناءها وبناتها وتدرسهم ، وحالتها المادية والمعيشية تعبانة ، وسنزورها في هذه الرحلة وسيقدم لها والدي العون المادي وربما عمي محمود كذلك.
رابعاً : خالتي نجيّة هاجرت مع زوجها وأولادها وبناتها الى لبنان وسكنوا مخيم صبرا ، وتعمل ممرضة في مركز صحي تابع لوكالة الغوث وزوجها يعمل مترجماً في الوكالة أيضاً ، وأوضاعهم المادية والمعيشية على قد الحال ومستورة.
خامساً : خالتي خولة كانت عروساً سنة النكبة ، وهاجرت مع زوجها الى سوريا ، وبعد سنتين هاجر زوجها الى تشيلي ثم استقدمها ولحقت به ، ولا نعرف عنهم الأخبار الكثيرة منذ زمن طويل.
سادساً: خالتي ندى وكانت أصغرهن سناً وعزباء سنة النكبة ، وهاجرت الى مخيم الشاطيء في غزة مع خالي رفيق ، وحصلت على الثانوية العامة المصرية في غزة ، وسافرت الى مصر ودرست رياضيات في جامعة القاهرة ، وتعمل في سلك التدريس بمصر ، وأحبها دكتور مصري بالجامعة وأحبته وتزوجا ، وهي الآن تسكن معه بحي المعادي بالقاهرة ، وأحوالها جيدة ونتواصل معها بالرسائل على أمل أن نلتقي في يوم ما عندما تسمح لنا الظروف. هذا عدا عن الأقارب الآخرين حيث لا يتسع المجال للخوض في أحوالهم.
أطرق خليل مندهشاً من هذا الشتات ، وقال لها "بصراحة والله في ناس كثير من شعبنا ماهم داريين ايش اليّ صار معاكم ، حتى إحنا في المدرسة عمرنا ما درينا ، ولا حد كلمنا عن هالشتات والفرقة ، إنها جريمة نكراء بكل المعايير والمقاييس. وقال لها : سيكون لنا حديث بعد عودتك تشرحين فيه أكثر عن أحوال اللاجئين من خلال المشاهدة والواقع.
وسألها خليل : متى ستسافرون الى عمان؟ فردت عليه بعد اسبوع إن شاء الله. وكان سفر آمنة مع عائلتها نقطة تحول في برنامج خليل لقضاء العطلة الصيفية ، حيث قرر السفر الى عمان مع بعض أقرانه من القرية للعمل هناك في العطلة الصيفية ، وذلك لتحصيل مصاريف الدراسة وشراء بعض الحاجيات الضرورية كالملابس والكتب وراديو لسماع الأخبار وهدية لآمنة. سافر خليل الى عمان يحمل فرشته ومخدته ولحافه من القرية ، وسرة من والدته بها زيت وزيتون وجبن وزعتر وميرمية وجعدة ، وسكن مع عمالٍ من قريته يعملون بعمان في غرفة متواضعة في راس العين ، وذهب في صبيحة اليوم التالي مبكراً ومشياً على الأقدام ، ووقف أمام المسجد الحسيني في وسط عمان ، حيث يقف العمال بانتظار فرصة عمل ، فمر مقاول طرق واستأجره بنصف دينارٍ باليوم.
وسافرت آمنة مع عائلتها الى عمان ، وبينما كانت آمنة تتجول برفقة عمها محمود وبناته في سيارتهم السعودية بشوارع عمان ، استوقفت السيارة ورشة في شارع المحطة تصلح بعض المناهل وتصون الشارع ، فإذا بعامل يحمل على كتفيه شوالاً من الإسمنت ويمر من أمام السيارة ، فنظر للسيارة الطويلة الفارهة والملفتة للنظر وخاصة وهي تقل فتيات ، وكانت المفاجأة لخليل وآمنة ، مش معقول ، إنها آمنة! ، إنه خليل! ، ورأيا بعضهما البعض ، تفاجأت آمنة بما رأت ، وظهرت آثار المفاجأة على وجنتيها المحمرتين ، وعينيها الحائرتين ، وقالت "هه..." وكادت أن تنطق اسمه ولكنها لم تكمل لولا أنها تذكرت أين هي. وأثارت انتباه بنات عمها بجانبها في الكرسي الخلفي ، وأدارت وجهها تنظر للوراء بعد تجاوز السيارة للمنهل سائرة ببطء بسبب أعمال الصيانة ، ورأت خليلاً يقف وهو يحمل الشوال على كتفيه ويتبع السيارة بنظره مشدوهاً ، الأمر الذي حدا بالمراقب أن يصيح به ويؤنبه على تباطئه ، فسألتها ابنة عمها : أتعرفين هذا العامل المسكين؟ ، أسمعت المراقب يصيح به بلا هوادة ولا رحمة ؟ لماذا يتابعنا بنظراته ، فردت عليها آمنة :لا ، لا ، ومنين بدي أعرفو ، طبعاً مبهور بالسيارة ، لكن أنا بصراحة شفقانة عليه بهالحر ، لأنوّ باين عليه طالب مدرسة وبشتغل في العطلة ، مش باين عليه إنوّ عامل محترف. ولم يكن خليل يتمنى أن تراه في هذه المناسبة وهذا الوضع الذي يلبس فيه ملابس العمال الرثة ، وكان وجهه مغبراً بالنحاتة الناعمة والإسمنت ، وعرقه يتصبب من التعب وثقل الحمل ، وكان العرق يختلط مع الرمل ليرسم على وجهه خريطة متباينة الإتجاهات ، ولكنها بداخلها أكبرت فيه ذلك المنظر ، وأشفقت عليه في نفس الوقت ، إذ بإمكان والده أن يوفر لهم حياة رغيدة لو رشّد كرمه وسخاءه ، وزاد احترامها وتقديرها له. أما هو فعاد لسكنه المتواضع في تسوية تحت الأرض يشعر بالإحباط والحرج الشديد ، وتمنى لو انشقت الأرض وابتلعته كما هي تبتلعه الآن في غرفة التسوية قبل أن تراه آمنة على هذه الصورة المنفرة. واعترته المخاوف من أنه لن ينال آمنة ، ومصدر هذه المخاوف نابع من مستوى أقاربها التعليمي والمادي والمعيشي والثقافي والذي كان يفوق مستواه ومستوى قريته ومجتمعه بكثير. وراودته الشكوك بأنها لا تحبه بحق، بل تتسلى معه في قريته المقفرة من الصديقات والقرينات لآمنة من مستواها التعليمي والثقافي.يتبع الجزء الثاني عشر
بقلم أحمد ابراهيم الحاج 14/10/2009م
............................................
في لقائهما بالكرم وعلى ضفتي السنسلة الفاصلة بينهما كالعادة ، أخبرت آمنة خليلاً بأنها وأهلها سيسافرون في جولة تمتد لشهر أو أكثر لزيارة أقاربهم في الشتات الفلسطيني في بعض الدول العربية ، وسيزورون عمان وسوريا ولبنان ، فوجيء خليل بالخبر لكنه قال لها: صحيح خبريني عن أقاربك يا آمنة ، فقالت له : إن الحديث عنهم سيطول لأنهم كثر ، ولكنني سأوجع رأسك بذلك ، ألديك الاستعداد؟ فقال لها "كلي آذانٌ صاغية خذي راحتك ، وهل سألاقي أجمل من هذه اللحظات قبل الوداع ثم الفراق؟ واتمنى أن يطول حديثك الى الصباح ، فقالت له :أي تخنتها هيك يا ابو الخل ، صه واستمع ولا تنبس ببنت شفة ، ولا تقاطعني أيها الفتى ، وأظن أنك لن تستطيع معي صبرا :
لي خمسة أعمام وأربعة عمات تشتتوا في نواحي الأرض وانتشروا على النحو التالي:
أولاً: عمّي الكبير الشهيد عبد الرحيم ، الله يرحمه ، استشهد في ثورة 1936م ، وهاجرت زوجته وأولاده (ثلاثة أولاد وبنت) مع أهلها من بلدة صفورية واستقروا في لبنان في مخيم يرج البراجنة. وإبنه الكبير سامي أكمل الثانوية وهاجر لأمريكا ليشتغل ويصرف على العائلة التي لم يكن لها معيلاً الاّ كرت المؤن. ويقولون أنهم عانوا كثيراً من الفقر والبطالة والحرمان في بداية الهجرة وذاقوا الأمرين ، مما اضطر ابن عمي سامي أن لا يكمل دراسته الجامعية بالرغم من تفوقه ويهاجر للعمل في أمريكا ، ويقولون انه الآن أكمل دراسته وهو يعمل وتحسن وضعه المادي وصار فوق الريح. وأصبح رجل أعمال ، ونظراً لثروته واستتثماراته الكبيرة في لبنان ، فقد منحته الحكومة اللبنانية الجنسية اللبنانية وتزوج من فتاة لبنانية كانت قد فازت بملكة جمال لبنان. وانتقلوا من المخيم الى الجبل حيث بنى قصراً فخماً. وطبعاً لازم نشوفهم ، ويمكن ما نقدر نشوف سامي لأنوّ كل يوم ببلد.
ثانياً : عمّي عبد الرحمن هاجر هو وعائلته الى عمان واستقر هناك في مخيم الحسين ، ويقولون أنه أصبح من تجار عمان الكبار ، ولكنه بخيل وما بطلع من ريشه ريش. حتى ظل قاعد في المخيم وكان باستطاعته أن يبني بيتاً ويرتاح من حياة المخيمات المضغوطة ، ايش بيقول "مطرح ما بترزق إلزق" ، وفوق هذا ما كان يساعد عمتي الأرملة زوجة الشهيد اليّ أنا درست عندها في الدهيشة إذا متذكر ، واليّ استشهد زوجها الله يرحمه مع عمي الشهيد عبد الرحيم في ثورة 1936م. وبصراحة أنا وماما بنتضايق كثير يوم بنروح عندهم ، كلهم غرفتين صغار ما بوسعوهم وقاعدين على بعض مثل السردين. وكمان أولاده وبناته بعيد عنك دمهم ثقيل ما بنسجم معاهم وماما ومرة عمي ما بيطيقوا بعض. وهنا انفرجت أسارير خليل وطمأنه ذلك من خشيته عليها من زواج الأقارب والذي كان سائداً في ذلك العصر. وقال لها "الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف."
ثالثاً : عمّي محمود هاجر مع عائلته للأردن وبعد ذلك سافر للعمل بالسعودية كمترجم في وزارة الدفاع ، لأنه كان يجيد اللغة الإنجليزية ، ولحقت به عائلته ويقولون أنه حصل على الجنسية السعودية ، وسيأتي هذا الصيف هو وعائلته الى عمان بسيارته الشفرليه الطويلة كما قال لي والدي ، وسنقابلهم هناك ، وأنا سأراه أول مرة منذ النكبة. وكم أنا مشتاقة لرؤيته والتعرف على زوجته وأولاده وبناته. ورح يستأجر بيت كبير في عمان خلال الإجازة ورح ننزل عندهم ، وما رح ننزل عند دار عمي عبد الرحمن البخيل "ابو كرته" والاّ ابو كمونة على رأي المثل.
رابعاً : عمي حسن هاجر الى سوريا ويسكن مع عائلته في مخيم اليرموك بدمشق ، وسنزورهم مع دار عمي محمود ، ويقولون أن أوضاعهم جيدة ويعيشون متساوين بالحقوق مع السوريين وهو يعمل مدرساً بوكالة الغوث ، وأولاده يدرسون بالجامعات السورية مثلهم مثل السوريين. وأنا نفسي أشوف دمشق والشام. وهذا عمي حسن طيب وكريم كثير ، وكمان فنقري وبحب شمات الهوا والإنبساط ، وأكيد رح ننبسط عندهم كثير.
خامساً : عمّي حسين هاجر مع عائلته الى العراق وبصراحة ما عندي معلومات كثير عنهم ، بس بيقولوا أوضاعهم المادية جيدة جداً ، وهو بشتغل ضابط كبير بالجيش العراقي لأنو كان حزبي ، وأولاده بدرسوا بالجامعات العراقية بعثات على حساب الحكومة ، وأنا ما شفته من يوم النكبة ولا بعرف أولاده وبناته. وأبوي بيقول العلاقات بين العراق والأردن سيئة بعد الإنقلاب على الهاشميين سنة 1958م واليّ كان فيه عمّي حسين في الجيش ضابط من أعضاء القيادة القومية والقطرية ، وما رح نروح العراق ، خايف إذا رجعنا من هناك نتعرض للمساءلة من حكومة الأردن.
أما عماتي الأربعة فتشتتوا على النحو التالي:
اولاً : عمتي صفية زوجة الشهيد اليّ ساكنة في مخيم الدهيشة ، سمعت عنها طبعاً ، عندها ولدين وثلاث بنات. وإبنها الكبير تخرج من معهد قلندية بالقدس وسافر للكويت يشتغل في شركة الكهرباء وصارت أوضاعهم المادية والمعيشية جيدة ، واشترى أرض في بيت جالا ، وبدهم يبنوا فيها ويطلعوا من المخيم عن قريب. وعمتي هذي إلها معزة خاصة عندي لأنها احتضنتني أثناء دراستي للمرحلة الإعدادية وكأنها أمي ، وبعدين صحبة هي وماما كثير.
ثانياً : عمتي لطيفة كانت متزوجة واحد من بيت دجن وهاجرت معاه الى الأردن ، وبعدين راحوا واستقروا بمصر لأنوّ مثل ما بحكي أبوي جوز عمتي كان ناصري ومقرب من الحكومة المصرية ، وعايش هناك وأوضاعهم جيدة ، وما رح نقدر نشوفهم بهذي الرحلة لأن العلاقات بين الأردن ومصر متوترة كثير ومش ناقصين وجع راس. وأولاده وبناته بدرسوا بالجامعات المصرية كلهم بعثات على حساب الحكومة المصرية . وهو بشتغل صحفي في جريدة مصرية.
ثالثاً : عمتي شكرية متزوجة واحد من العباسية ، وهاجروا الى الأردن واستقروا بمخيم الوحدات وجوزها بشتغل في ليبيا مقاول ، وبنوا بيت في الأشرفية في عمان وطلعوا من المخيم ، وإن شاء الله رح نشوفهم بعمان إذا إجو إجازة. وبيقولوا أوضاعهم جيدة وماشي الحال.
رابعاً : عمتي عايشة ظلت بالبلاد مع جوزها وأولادها ، ولكن اليهود بعد ما دمروا بلدنا ومسحوا معالمها هجروهم الى إحدى قرى الجليل ، ودايماً بنسمع صوتها وأخبارها في برنامج "رسائل العرب الإسرائيليين الى ذويهم في الخارج" من إذاعة اسرائيل.
والآن انتهينا من عمامي وعماتي ، بنيجي لخوالي الأربعة وخالاتي الستة ، مش إنت سألت وبدك تعرف ، تحمل قرقرة وكثرة حكي.
اولاً : خالي رفيق هاجر مع عائلته الى غزة ويسكن مخيم الشاطيء ، وطبعاً غزة تابعة لمصر ، والإتصالات مقطوعة بينا وبينهم ، وما شفتهم من يوم النكبة ، وأحياناً بشوف أمي قاعدة بتبكي وتتذكر خالي رفيق وخوالي وخالاتي وبالأخص خالي رفيق شو كان طيب معاها. وأولاده وبناته بدرسوا بالجامعات المصرية مثلهم مثل المصريين وأحسن.
ثانياً : خالي توفيق هاجر الى لبنان وسكن مخيم عين الحلوة ، وبعد لبنان ومن ضيق الحال طفش وهاجر الى البرازيل ، وبعد سنتين أخذ زوجته وأولاده معاه للبرازيل، ومن يومها ماما ما بتسمع عنهم إشي. وقديش متشوقة لرسالة والاّ خبر عنهم ، وبتعزي نفسها وبتقول في الأخير " الغايب حجته معاه ، الله يسهل عليهم".
ثالثاً : خالي شفيق هاجر مع عائلته الى سوريا ، ويعمل ضابطاً بالجيش السوري ، ويسكن بمنطقة المهاجرين بدمشق بفيلا ، وبيقولوا بحكم وبرسم هناك ، ترى خالي هذا كان وما زال حزبي مثل عمي حسين ، وإن شاء الله رح نشوفهم لما نروح سوريا ، وأوضاعهم جيدة جداً. وخلفته كلها بنات ، عندو سبع بنات ، بس حلوين كثير وفي وحدة منهم ممثلة مسرح ناجحة كثير. وطبعاً بناته درسوا وبدرسوا بالجامعات السورية مثل السوريين وبنافسوا على الوظائف الحكومية مثل السوريين.
رابعاً : خالي جميل ، هذا أفلح واحد في العيلة ، طلع صغير وعزابي وكمل توجيهي في الأردن ، وجاب من الأوائل ، وبدرس حالياً طب في الجامعة الأمريكية ببيروت على حساب وكالة الغوث ، ورح نشوفو ببيروت ونحضر حفل تخرجه السنة ، وهذا إليّ خلاّ إمي تضغط على ابوي من شان نسافر هالرحلة الطويلة ، بدها تفرح وتتباهى بأخوها الدكتور جميل.
أخذ خليل بالتثاؤب حيث مال عليهم الظل بعد زوال الشمس من كبد السماء ، وهبت نسمات باردة نسبياً ، فضحكت آمنة وقالت له : ألم أقل لك أنك لن تستطيع معي صبرا ، فقال لها : سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري يا آمنة ، أكملي فإنه حديث محزن ومشوق في نفس الوقت ، حقاً إنها الدراما والتراجيديا بعينها في قصة هذا الشعب المنكوب ، واسمحي لي أن أهمس لك وأقول: رب ضارة نافعة ، والله هالشتات دفع الناس للعلم وصارت أحوالهم المادية والمعيشية والتعليمية أحسن من أحوالنا إحنا اليّ قاعدين بالبلاد ، لأنهم فقدوا المرجعية الجغرافية الوطنية والإجتماعية. وفي حالة جور الزمان عليهم لم يتبق لهم سلاحٌ لخوض معركة الحياة الاّ العلم والإبداع ، إنهم مكافحون ومناضلون في هذه الحياة أينما وجدوا. وبصراحة فقد دبت فيّ الغيرة على أهل القرية والمنطقة ، وسأجند نفسي لدعوتهم للعلم والخروج من قوقع الراحة بعد الحصاد والدرس ، وسأقود ثورة على الواقع التعليمي الراهن وعلى الثقافة السائدة ، هات ما تبقى لديك وناوليني شربة من الماء فقد نفذ الماء الذي لدي وأكملي بعد أن أشرب ، فقد نشف ريقي. وأحضرت له الماء وأكملت آمنة عن شتات خالاتها وقالت:
أولاً: خالتي رابعة هاجرت مع زوجها وأولادها وبناتها الى الضفة الغربية وسكنوا مخيم طولكرم ، ولزوجها محلات بقالة كبيرة بالمخيم وأوضاعهم المادية جيدة ، وقد اشترى أرضاً في بلدة عنبتا وينوي البناء فيها قريباً ، ولهم ابن يدرس في مصر وآخر في سوريا ، وآخر بمعهد خضوري ، وبنتهم الوحيدة تخرجت من معهد معلمات الوكالة وتزوجت من مدير البنك العربي فرع نابلس.
ثانياً : خالتي سعاد ، هذي حكايتها حكاية ، وما بتستاهل اليّ جرى لها أبداً ، كانت متزوجة واحد من الثوار ، ولأسباب شخصية وثأرية عائلية وشى به بعض المغرضين لقيادة الثورة واتهموه بالتعامل مع اليهود والخيانة ، وكان كما قال أبي بريئاً من هذه التهمة ، ولم يتم التحقق من صحة الوشاية من قبل الثوار ، فأمسكوا به ، وقيدوه ورموا به في بئر سحيق في الخلاء ليلاقي حتفه ببطء ، وجاءت دورية يهودية وسمعت صوت استغاثة وأنين يخرج من باطن الأرض ، فأخرجوه من البئر وهو على شفير الهاوية ينتظر الموت حياً ، واستمالوه وأغروه ، وفي ردة فعل عنيفة مضادة للفعل الذي وقع عليه ظلماً صار يشتغل لصالح اليهود ويتعامل معهم رسمياً ، ويشتغل بالإذاعة الإسرائيلية ، فهجرته خالتي وطلقها وتزوج يهودية ، وتعيش خالتي الآن في الأراضي المحتلة مع أولادها ، ولا نسمع عنها الكثير بالرغم من مراسلتنا لها عبر الصليب الأحمر، ومتابعة الإذاعة الإسرائلية لعلها تتحدث في برنامج رسائل العرب الإسرائليين الى ذويهم في الخارج. يقولون أنها تسكن في أم الفحم بعد تهجيرها من قريتنا ، والله أعلم.
ثالثاً: خالتي فتحية هاجرت مع زوجها وأولادها وبناتها الى لبنان وسكنوا مخيم نهر البارد في لبنان ، وتوفي زوجها بعد الهجرة بأربع سنين ، وهي تعمل مدرسة بوكالة الغوث في مدارس الوكالة بلبنان وتعيل أبناءها وبناتها وتدرسهم ، وحالتها المادية والمعيشية تعبانة ، وسنزورها في هذه الرحلة وسيقدم لها والدي العون المادي وربما عمي محمود كذلك.
رابعاً : خالتي نجيّة هاجرت مع زوجها وأولادها وبناتها الى لبنان وسكنوا مخيم صبرا ، وتعمل ممرضة في مركز صحي تابع لوكالة الغوث وزوجها يعمل مترجماً في الوكالة أيضاً ، وأوضاعهم المادية والمعيشية على قد الحال ومستورة.
خامساً : خالتي خولة كانت عروساً سنة النكبة ، وهاجرت مع زوجها الى سوريا ، وبعد سنتين هاجر زوجها الى تشيلي ثم استقدمها ولحقت به ، ولا نعرف عنهم الأخبار الكثيرة منذ زمن طويل.
سادساً: خالتي ندى وكانت أصغرهن سناً وعزباء سنة النكبة ، وهاجرت الى مخيم الشاطيء في غزة مع خالي رفيق ، وحصلت على الثانوية العامة المصرية في غزة ، وسافرت الى مصر ودرست رياضيات في جامعة القاهرة ، وتعمل في سلك التدريس بمصر ، وأحبها دكتور مصري بالجامعة وأحبته وتزوجا ، وهي الآن تسكن معه بحي المعادي بالقاهرة ، وأحوالها جيدة ونتواصل معها بالرسائل على أمل أن نلتقي في يوم ما عندما تسمح لنا الظروف. هذا عدا عن الأقارب الآخرين حيث لا يتسع المجال للخوض في أحوالهم.
أطرق خليل مندهشاً من هذا الشتات ، وقال لها "بصراحة والله في ناس كثير من شعبنا ماهم داريين ايش اليّ صار معاكم ، حتى إحنا في المدرسة عمرنا ما درينا ، ولا حد كلمنا عن هالشتات والفرقة ، إنها جريمة نكراء بكل المعايير والمقاييس. وقال لها : سيكون لنا حديث بعد عودتك تشرحين فيه أكثر عن أحوال اللاجئين من خلال المشاهدة والواقع.
وسألها خليل : متى ستسافرون الى عمان؟ فردت عليه بعد اسبوع إن شاء الله. وكان سفر آمنة مع عائلتها نقطة تحول في برنامج خليل لقضاء العطلة الصيفية ، حيث قرر السفر الى عمان مع بعض أقرانه من القرية للعمل هناك في العطلة الصيفية ، وذلك لتحصيل مصاريف الدراسة وشراء بعض الحاجيات الضرورية كالملابس والكتب وراديو لسماع الأخبار وهدية لآمنة. سافر خليل الى عمان يحمل فرشته ومخدته ولحافه من القرية ، وسرة من والدته بها زيت وزيتون وجبن وزعتر وميرمية وجعدة ، وسكن مع عمالٍ من قريته يعملون بعمان في غرفة متواضعة في راس العين ، وذهب في صبيحة اليوم التالي مبكراً ومشياً على الأقدام ، ووقف أمام المسجد الحسيني في وسط عمان ، حيث يقف العمال بانتظار فرصة عمل ، فمر مقاول طرق واستأجره بنصف دينارٍ باليوم.
وسافرت آمنة مع عائلتها الى عمان ، وبينما كانت آمنة تتجول برفقة عمها محمود وبناته في سيارتهم السعودية بشوارع عمان ، استوقفت السيارة ورشة في شارع المحطة تصلح بعض المناهل وتصون الشارع ، فإذا بعامل يحمل على كتفيه شوالاً من الإسمنت ويمر من أمام السيارة ، فنظر للسيارة الطويلة الفارهة والملفتة للنظر وخاصة وهي تقل فتيات ، وكانت المفاجأة لخليل وآمنة ، مش معقول ، إنها آمنة! ، إنه خليل! ، ورأيا بعضهما البعض ، تفاجأت آمنة بما رأت ، وظهرت آثار المفاجأة على وجنتيها المحمرتين ، وعينيها الحائرتين ، وقالت "هه..." وكادت أن تنطق اسمه ولكنها لم تكمل لولا أنها تذكرت أين هي. وأثارت انتباه بنات عمها بجانبها في الكرسي الخلفي ، وأدارت وجهها تنظر للوراء بعد تجاوز السيارة للمنهل سائرة ببطء بسبب أعمال الصيانة ، ورأت خليلاً يقف وهو يحمل الشوال على كتفيه ويتبع السيارة بنظره مشدوهاً ، الأمر الذي حدا بالمراقب أن يصيح به ويؤنبه على تباطئه ، فسألتها ابنة عمها : أتعرفين هذا العامل المسكين؟ ، أسمعت المراقب يصيح به بلا هوادة ولا رحمة ؟ لماذا يتابعنا بنظراته ، فردت عليها آمنة :لا ، لا ، ومنين بدي أعرفو ، طبعاً مبهور بالسيارة ، لكن أنا بصراحة شفقانة عليه بهالحر ، لأنوّ باين عليه طالب مدرسة وبشتغل في العطلة ، مش باين عليه إنوّ عامل محترف. ولم يكن خليل يتمنى أن تراه في هذه المناسبة وهذا الوضع الذي يلبس فيه ملابس العمال الرثة ، وكان وجهه مغبراً بالنحاتة الناعمة والإسمنت ، وعرقه يتصبب من التعب وثقل الحمل ، وكان العرق يختلط مع الرمل ليرسم على وجهه خريطة متباينة الإتجاهات ، ولكنها بداخلها أكبرت فيه ذلك المنظر ، وأشفقت عليه في نفس الوقت ، إذ بإمكان والده أن يوفر لهم حياة رغيدة لو رشّد كرمه وسخاءه ، وزاد احترامها وتقديرها له. أما هو فعاد لسكنه المتواضع في تسوية تحت الأرض يشعر بالإحباط والحرج الشديد ، وتمنى لو انشقت الأرض وابتلعته كما هي تبتلعه الآن في غرفة التسوية قبل أن تراه آمنة على هذه الصورة المنفرة. واعترته المخاوف من أنه لن ينال آمنة ، ومصدر هذه المخاوف نابع من مستوى أقاربها التعليمي والمادي والمعيشي والثقافي والذي كان يفوق مستواه ومستوى قريته ومجتمعه بكثير. وراودته الشكوك بأنها لا تحبه بحق، بل تتسلى معه في قريته المقفرة من الصديقات والقرينات لآمنة من مستواها التعليمي والثقافي.يتبع الجزء الثاني عشر
بقلم أحمد ابراهيم الحاج 14/10/2009م
الأربعاء 20 نوفمبر 2024 - 20:54 من طرف جنى ميرو
» صيانة سخانات في دبي 0543747022 emiratefix.com
الأربعاء 20 نوفمبر 2024 - 19:53 من طرف جنى ميرو
» تركيب و تصليح سخانات مركزية في عجمان 0543747022
السبت 16 نوفمبر 2024 - 23:43 من طرف جنى ميرو
» تركيب و تصليح سخانات مركزية في عجمان 0543747022
السبت 16 نوفمبر 2024 - 23:11 من طرف جنى ميرو
» تصليح أفران في دبي 0543747022 emiratefix.com
السبت 16 نوفمبر 2024 - 22:15 من طرف جنى ميرو
» تصليح أفران في دبي 0543747022 emiratefix.com
السبت 16 نوفمبر 2024 - 22:11 من طرف جنى ميرو
» تصليح ثلاجات في دبي emiratefix.com 0543747022
السبت 16 نوفمبر 2024 - 0:11 من طرف جنى ميرو
» تصليح سخانات في دبي - 0543747022 (الشمسية و المركزية) emiratefix.com
الجمعة 15 نوفمبر 2024 - 20:33 من طرف جنى ميرو
» تركيب و تصليح سخانات مركزية في الشارقة 0543747022
الأربعاء 13 نوفمبر 2024 - 21:30 من طرف جنى ميرو
» اداة ذكاء اصطناعي للباحثين وطلاب الدراسات العليا
الجمعة 26 أبريل 2024 - 11:23 من طرف Abd