منتديات خاراس الرسمية

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

2 مشترك

    آمنة و خليل/الجزء السابع عشر

    أحمد ابراهيم الحاج
    أحمد ابراهيم الحاج

    {{ كبار الشخصيات }}


    {{ كبار الشخصيات }}


    الجنس : ذكر
    البرج : الحمل
    عدد المشاركات : 231
    العمر : 72
    البلد : فلسطين - خاراس
    نقاط النشاط : 204
    الاعجاب : 4
    الدوله : فلسطين

    آمنة  و خليل/الجزء السابع عشر Empty آمنة و خليل/الجزء السابع عشر

    مُساهمة من طرف أحمد ابراهيم الحاج الإثنين 14 مارس 2011 - 9:13

    آمنة وخليل
    الجزء السابع عشر
    ...........................
    فتحت المدارس والمعاهد أبوابها للعام الدراسي 1964 – 1965م ، والتحق خليل وآمنة في السنة الدراسية النهائية ، وسافر سليم لمصر للإلتحاق بجامعة القاهرة كلية التجارة كما في نية أهله ، وفي نيته كان يريد الإلتحاق بجيش التحرير الفلسطيني ، وتحت ضغط والديه وأخته آمنة وصديقه خليل ورقابة عمته لطيفة وخالته ندى ومشورة زوج عمته وزوج خالته ونصائحهم ، دخل الكلية وانتظم بالدراسة وتخصص في علوم السياسة والإقتصاد ، على أمل أن يلتحق بمنظمة التحرير الفلسطينية مناضلاً بالكلمة والفكرة ومؤهلاً علمياً وسياسياً إن تطوع بجيش التحرير الفلسطيني بعد التخرج ، ليناضل بيد يحكمها عقل متنور بالعلم والفطنة السياسية القادرة على جني الحصاد والإستثمار، ليتم التزاوج بين النضال بالكلمة واليد ، وليستثمر العقل السياسي ما تنجزه اليد المناضلة على الأرض. وهذا ما أقنعه به زوج خالته الأستاذ الجامعي المصري الذي كان متعاطفاً مع القضية الفلسطينية بكل جوارحه وما شجعه عليه زوج عمته لطيفة. وأثناء دراسته كان يواكب النشاطات الوطنية والثقافية للطلبة الفلسطينيين الذين يدرسون بمصر من جميع فئات الشعب الفلسطيني بالشتات وفي الضفة الغربية والشرقية وقطاع غزة. وأصبح عضواً فاعلاً ونشيطاً باتحاد طلبة فلسطين بمصر والذي كان يسمى سابقاً "رابطة طلبة فلسطين"، حيث كانت الأجواء تسمح بإظهار الشعور الوطني الفلسطيني ، ويلقى الفلسطينيون الدعم والمساندة من النظام المصري الذي كان يدرك مدى الأهمية الإستراتيجية الأمنية لفلسطين بصفتها مدخلاً لمصر ، حيث كانت كل الغزوات التي تعرضت لها مصر على مدار التاريخ من بوابة فلسطين الاّ غزوة نابليون كانت باتجاه معا...... كما تواصل مع عمته لطيفة وزوجها الذي يعمل صحفياً والذي كان مقرباً من النظام المصري ، وكذلك كان يزور خاله رفيق المقيم بمخيم الشاطيء بغزة ، والتي كانت تابعة للحكم المصري. وكان خاله رفيق منتمياً لجماعة سرية يقودها رجل يدعى ابو جهاد وتقوم بعمليات فدائية محدودة ضد اسرائيل ويطلقون عليها منظمة فتح (حركة التحرير الوطني الفلسطيني) والتي كانت تتجاهلها وسائل الإعلام العربية وتشكك فيها وفي تبيعتها للمخابرات المركزية الأمريكية تارة والى بريطانيا تارة أخرى. وبالتالي لم تكن تحظى بدعم شعبي واسع النطاق الاّ من أعضائها ومن يتعاطف معهم من المقربين. وكان سليم قد سمع عن هذا التنظيم خلال دراسته بجامعة القاهرة من الطلبة الفلسطينيين القدامى ، وأن بعض مؤسسي هذا التنظيم السري وقائده كانوا يدرسون بمصر ، وكان معظمهم ينتمي لحزب الإخوان المسلمين حيث شاركوا معه وتطوعوا تحت لوائه للحرب ضد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م في إطار "جبهة المقاومة الشعبية" ، وكان تحالفاً قصير الأجل بين الإخوان المسلمين والبعثيين أثناء احتلال اسرائيل لقطاع غزة عام 1956م. وبعد ذلك انشق أعضاء تنظيم "فتح" عن حزب الإخوان المسلمين عام 1958م ، وتآلفوا مع أعضاء من تيارات وطنية أخرى مختلفة المشارب الثقافية وجهة الإنتماء ، تلاقوا معهم في الهدف الوطني الفلسطيني الذي يعبر عن إرادة الشعب الفلسطيني وطموحه بالتحرر والإستقلال على وطنه وأرضه ، وشكلوا ائتلافاً وطنياً يعمل تحت مظلة المصلحة الوطنية العليا ، دون التعصب لأصل الإنتماء الحزبي والمشرب الثقافي، أو التدخل بالشأن الداخلي للدول العربية ، وأنهم انصهروا جميعاً في بوتقة العمل الوطني وأسسوا هذه الحركة. وأقلق نشاطهم الذي كانوا يمارسونه من قطاع غزة العدو الإسرائيلي. وسأل سليم خاله رفيق عن هذا التنظيم ، فتحفظ بالإجابة وأبعد عن نفسه الشك بانتمائه له حتى يتأكد من سلوك ابن اخته ومعدنه وصلابته ومنطقه. وعاد سليم من زيارته لغزة الى القاهرة وبدأ البحث عن هذه الحركة السرية التي بدأت أعمالها بقطاع غزة ، والتي انطلقت فكرة تأسيسها من هيئة اتحاد طلبة فلسطين بالقاهرة والتي كانت تسمى رابطة طلبة فلسطين ويرأسها الشخص المؤسس لهذا التنظيم وهو ورفاقه من الطلبة الفلسطينيين بمصر ، وجمع عنها المعلومات ، واستقصى عن سيرة مؤسسيها والدوافع التي حدت بهم لإنشائها. تكررت زيارات سليم لخاله رفيق في مخيم الشاطيء بقطاع غزة ، وتناقشا وتبادلا الأحاديث والحوار حول القضية الفلسطينية وشجونها ، وتطابقت وجهات نظرهما وتقاطعت في مساحات واسعة ، وواجه سليم خاله رفيق بما يعرفه عن التنظيم السري الذي يدعى حركة فتح ، وعن أسماء مؤسسي هذا التنظيم ، وعن قواعدها في الجزائر وفي سوريا والتي تدرب الشباب الفلسطيني على الحرب الشعبية ، وعن اقتناع سليم بأفكار الحركة ومنهاجها في المقاومة ، ولما اقتنع خاله رفيق بفكره ومنطقه صارحه بانتمائه لهذا التنظيم ودعاه للإنضمام اليه ، والى الحفاظ على سريته ، ووعده بمفاجأة قريبة ستجعل من هذا التنظيم قنبلة تفجر الفرح والبشرى بأوساط الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية وقوى التحرر العالمية. وانضم سليم الى هذا التنظيم السري الذي لم يكن يحظى برضى الحكومة المصرية والتي حسبته على تنظيم الإخوان المسلمين الذي يناصبها العداء. وكانت المفاجأة التي وعد بها رفيق ابن اخته سليم في مطلع عام 1965م ، إنها عاصفة مدوية في الأوساط العربية والإسرائيلية ، فوجيء العالم العربي وفوجئت اسرائيل بأول عملية فدائية نوعية داخل اسرائيل وهي تفجير نفق عيلبون ، وأعلنت فتح (حركة التحرير الوطني الفلسطيني) عن قيام جناحها العسكري (قوات العاصفة) بهذه العملية التي هزت كيان العدو ، وصدر البلاغ العسكري رقم 1 بالنص التالي:
    اتكالاً منا على الله ، وايماناً منا بحق شعبنا في الكفاح لاسترداد وطنه المغتصب وايماناً منا بالموقف العربي الثائر من المحيط الى الخليج وايماناً منا بمؤازرة أحرار وشرفء العالم لذلك فقد تحركت أجنحة من قواتنا الضاربة في ليلة الجمعة 13/12/1964م ، وقامت بتنفيذ العملية المطلوبة منها كاملة ضمن الأرض المحتلة ، وعادت جميعها الى معسكراتها سالمة ، وإننا لنحذر العدو من القيام بأية اجراءات ضد المدنيين الآمنين العرب اينما كانوا ، لأن قواتنا سترد على الإعتداء باعتداءات مماثلة ، وستعتبر هذه الإجراءات من جرائم الحرب ، كما وأننا نحذر جميع الدول من التدخل لصالح العدو ، وبأي شكل كان ، لأن قواتنا سترد على هذا العمل بتعريض مصالح هذه الدول للدمارأينما كانت. عاشت وحدة شعبنا وعاش نضاله لاستعادة كرامته ووطنه .
    التوقيع :القيادة العامة لقوات العاصفة.
    وبعد ذلك تتابعت البلاغات العسكرية حتى البلاغ الرابع ، وأثار ذلك تساؤلات واستفهامات الناس عن هوية هذه الحركة او المنظمة وكان لا بد من التعريف والإفصاح عن الهوية ، وصدر البيان السياسي الأول بتاريخ 28/1/1965م والذي يكشف عن هوية هذه الحركة وركز فيه على ثلاثة قضايا أساسية وهي :
    إن من أطلق الرصاصة الآولى يدرك تماماً الأبعاد الواسعة لمثل هذه الرصاصة ، فهي ليست مجرد رصاصة أطلقت ، بل انعطافاً رئيسياً قد حدث الآن في تاريخ الشعب الفلسطيني وفي تاريخ المنطقة العربية. وتحويله من شعب مخيمات بلا هوية وطنية الى شعب مقاوم ومناضل في سبيل حريته واستقلاله واستعادة حقوقه الوطنية.
    1. إن الإنطلاقة ليست الاّ لحظة البدء للحرب التحريرية ذات المنهج المخطط والمدروس ، ولذا فالأمر لا يحتمل الجدل ، بل لا بد من التقدم دوماً نحو توسيع الإنطلاقة كي تصل الى مستوى الحرب ، وبالتالي فإن قيادة فتح كانت تدرس منذ التأسيس ومنذ اللحظة الآولى أن الصراع مع العدو ليس حرباً خاطفة ، بل لا بد من تهيئة الذات لحرب طويلة المدى وشاقة ومريرة.
    2. إنه من الممكن دائماً المزاوجة بين العمل العسكري والتنظيمي الذي قدمت فتح نموذجاً له وسوف يستمر ويتصاعد بين العمل الرسمي الفلسطيني والعربي ، لأن الكفاح من أجل فلسطين يصب في مجرى واحد يبتدي وينتهي باجتثاث الخطر الصهيوني عن أرضنا. وصدر بتوقيع القيادة العامة لقوات العاصفة.
    استقبلت الأنظمة العربية ولادة هذا التنظيم السري الجديد بالدهشة والرفض والتشكيك في تبعيته ، وحاول أعضاءٌ من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية إصدار بيان براءة من هذا التنظيم استرضاءً للأنظمة العربية الرافضة له ، ولكن رئيس المنظمة المناضل الكبير أحمد الشقيري رفض هذا التوجه في داخل المنظمة ، وعطل صدور مثل هذا البيان، ولم يرَ النور واستهجن الفكرة إذ كيف يقبل فلسطيني أن يعلن البراءة من شقيقه الذي يضرب عدوه في عقر داره. وكان موقفاً مبدئياً ووطنياً خالصاً وشجاعاً من هذا الرمز الوطني الكبير.
    وفي هذا الوقت وبعد هذا التاريخ بالتحديد والحدث المزلزل ، صارت اسرائيل تتحرش بالجيوش العربية لدول الطوق ، وكانت تحدث اشتباكات عسكرية متفرقة بين الدوريات العربية والإسرائيلية على خطوط الهدنة في كل من سوريا والأردن ومصر وقطاع غزة ، وحدثت اختراقات لخطوط الهدنة من الجيش الإسرائيلي تقابلها اختراقات من المواطنين ضمن أعمال انتقامية من تنظيمات سرية في غزة والضفة ، ومن متسللين الى المناطق المحتلة للنهب والتخريب في المستوطنات انتقاماً من الغاصب لأراضيهم ظلماً وعدواناً. وكأنها شعرت بالذعر من هذا الحراك الفلسطيني نحو الطريق السليم ، ومبادرته الشجاعة لانتزاع زمام الأمور المتعلقة بقضيته من الأنظمة العربية الغارقة في خلافاتها ، والعاملة من أجل استمرار نظمها في الحكم ، والحارسة للحدود الإسرائيلية كحاجز بين الشعوب العربية الملتهبة وبين عدوها الكيان الصهيوني الغاصب للأرض المقدسة.
    وتوالت الأحداث السياسية والعسكرية بشكل دراماتيكي في هذا العام ، ففي 18/5/1965م أعلنت سوريا عن اكتشاف الجاسوس اليهودي الصهيوني الذي زرع في أركان حكمها ، والذي وصل الى عضو فعال بقيادة حزب البعث الحاكم ، إنه عضو الحزب النشط والذي ألم بكل اسرار الدولة العسكرية والإقتصادية الدقيقة ، وصور قواعدها العسكرية وآلياتها بكميرة تصوير دقيقة زرعت في ساعة اليد التي يحملها وذلك عندما زار المواقع العسكرية المتاخمة لإسرائيل في الجولان بصحبة قادة البعث ، والمدعو باسمه الوهمي المزيف "كامل أمين ثابت" واسمه الحقيقي هو "إلياهو شاؤول كوهين" (ايلي كوهين). وكان ينقل المعلومات العسكرية وأسرار الدولة السورية الى اسرائيل ، وهو من يهود مصر ، وكان عضواً في منظمة الشباب الصهيوني في الإسكندرية بمصر ، وكان متحمساً للسياسة الصهيونية تجاه الدول العربية وأطماعها في إقامة اسرائيل الكبرى من النيل الى الفرات ، وقد اشترك في العملية المشهورة والمعروفة في مصر بفضيحة "لافون"، حيث قاموا بنسف منشآت امريكية في القاهرة للإيقاع بين مصر وامريكا وتخريب العلاقة بينهما ، ولكنه استطاع اثبات براءته بخبث ودهاء ماكر بعد القبض عليه من الأمن المصري مع أعضاء الجماعة الصهيونية (منظمة الشباب الصهيوني) والتي قامت بنسف وتدمير مراكز أمريكية بالقاهرة ، وبعد ذلك جنده الموساد الإسرائيلي ، ودربه على اللهجة العربية السورية ، وأرسله للأرجنتين باسم عربي مهاجر من أصل سوري ، وبجواز سفر مزور ، وتم ترتيب دخوله للأرجنتين بالتنسيق مع عملاء اسرائيل من اليهود في الأرجنتين ، وتحول لرجل أعمال سوري ثري يقيم بالأرجنتين ، وفقد والديه هناك بالأرجنتين ، وعاد ليقيم في بلده وموطنه السوري الأصلي حسب سيناريو الموساد المعد له. وقد أبدى إخلاصاً ظاهرياً لوطنه المزعوم سوريا ، واشتهر بإقامة الولائم والحفلات لضباط الجيش السوري الكبار ومسؤولي الحزب المرموقين ، وكان على وشك استلام منصب رفيع بالدولة السورية ، لولا أن اكتشف أمره بواسطة الجاسوس المصري المزروع داخل اسرائيل "رفعت الجمال" والمدعو "رأفت الهجان" كما تقول احدى الروايات ، والذي التقاه في اسرائيل في حفلة عشاء ، وبعد ذلك تمت مراقبة سكنه بدمشق الى أن التقطت رسائله اللاسلكية لاسرائيل كإثبات دامغ على تجسسه لصالح دولة معادية ، وتمت محاكمته وإعدامه بتاريخ 18/5/1965م في ساحة المرجة بدمشق. ولقد اهتز العالم العربي لهذا الحدث وأصيب بالصدمة والذهول والغثيان الوطني ، واعترته حالة من الهذيان والقشعريرة والحمّى وفقدان الثقة ، وعدم التصديق لما يحدث في أنظمته العربية الحاكمة.
    وفي إحدى الإشتباكات بين دورية اسرائيلية ودورية أردنية في منطقة مار الياس ، تمكنت الدورية الأردنية بقيادة شاويش من الحرس الوطني الأردني وهو من قرية خليل ومن أقاربه، تمكنت من ايقاع الأذى والخسائر البشرية بالدورية الإسرائيلية وردتها على أعقابها مهزومة مدحورة ، وفوجئت القرية وصدمت بتحويل ابنها الى مستشفى الأمراض العقلية ببيت لحم ، ومن ثم تسريحه من الحرس الوطني بحجة عدم لياقته الصحية للخدمة ، وفي معرض حديث خليل لآمنة عن هذا البطل في أحد لقاءاتهما بالكرم قال لها :إن هذا الشاب الذي أعرفه جيداً والمتهم بلوثة عقلية هو من أكثر شباب القرية خلقاً وذكاءً وشجاعة وإقداماً وأمانة وإخلاصاً ولياقة بدنية ومهارة عسكرية منقطعة النظير ، وكل القرية تشهد له بذلك ، ولحسن سيرته وأخلاقه والتزامه واجتهاده ومهارته العسكرية فقد رقي بسرعة الى هذه الرتبة حيث لم يمض على انضمامه كجندي حافٍ سوى ثلاث سنوات ، وكان مرشحاً للترفيع الى رتبة وكيل على الرغم من قلة تعليمه التي اقتصرت على الصف الأول الإبتدائي ، وكان محبوباً من قادته وينوون ضمه للجيش النظامي ، وكان مُدرِباً ومشاركاً كقائد في الإستعراضات العسكرية لدقة انضباطه. فلو كان هذا الشاب متعلماً لأصبح قائداً عسكرياً من الطراز الأول. هكذا تضيع الكفاءات الوطنية من الفقر والجهل واليتم الوطني ، لافتقادنا الى كيان وطني خاص بنا وقيادة وطنية من شعبنا تحرص على مصالحنا الوطنية ، وكم من أمثاله لم ينالوا حظهم من التعليم ، ومضوا في هذه الحياة دون استثمار طاقاتهم ومواهبهم لضيق العيش والفقر المدقع وأصبحوا عالة استهلاكية بدلاً من أن يكونوا طاقة انتاجية مبدعة. وكم من ابداعات فلسطينية تم تجييرها لغير الوطن ، هذا عدا عن الذين قضوا وماتوا من قلة العناية الصحية والوعي الصحي ، فقد كانت الحصبة تحصد ثلث أطفال القرية ، وكانت القرية بدون عيادة طبية وما زالت ، وهنالك عيادة طبية مشتركة في القرية المجاورة لنا ، بها ممرض مناوب وطبيب يداوم ساعتين باليوم ، وتبعد حوالي أربعة كيلومترات عن مركز القرية وأكثر من ذلك عن أطرافها ، وبين القريتين وادٍ عميق وطلعة حادة ثم منخفض تليه تلة تقع عليها العيادة ، طريق يصعب على الأصحاء فما بالك على المرضى، ويتوجب على المريض أن يصلها مشياً على الأقدام ، أو محمولاً على أكتاف أقاربه ، أو على حمار أهله يحفه أقاربه من الجنبين يحثون الحمار على السرعة. وبهذه المناسبة أتذكر وأنا صغير أن والدي أعطاني ثلاثة قروش ونصف (قرشين قطعة واحدة بيضاء يعني (قرطة) + قرش وتعريفة) وذلك لقاء مشاركتي في درس القش على البيدر وذلك بدل عمل إضافي ، فرحت بها كثيراً ، ومن فرحتي نمت على ظهري على شرفة شباك بيتنا الغربي ألعب بها ، أضعها تارة في يدي وتارة في فمي ، فسحلت جميعها في مجرى حلقي وعلقت به ، ولم أستطع اخراجها ، ولم يكن معي في البيت الاّ والدتي ، وسمعتني اتقيؤ وأصرخ بصوت مخنوق ، ولما علمت بالأمر هرعت اليّ وناشدتني أن اتقيأ بقوة ، وقلبتني رأساً على عقب بين يديها دون فائدة ، ثم طلبت مني أن أبلعها للداخل ، وأحضرت لي ماءً وطعاماً لكي أدفع بها الى معدتي ، ولم أفلح بذلك ، فحملتني وهي تولول مضطربة ومفزوعة ومتجهة الى العيادة الصحية التي لم تكن بعيدة عنا بحكم موقع بيتنا المتوسط بين القريتين ، وكانت تقول "يمهّ يا حبيبتي ، ضاع الولد من بين ايدي ، راح ضاع بشربة ميّة" سيما وكنت أنا البكر ، وصارت تركض وتسابق عزارائيل لكي لا يستل روحي وكأنه سيستلها منها ، وفي الطريق وقبل أن نصل العيادة شعرت أنا بفزع والدتي واضطرابها وجزعها علي ، فأطلقت شهقة عميقة من الأعماق بكل قوة ، وذلك شفقة على حال والدتي التي تركض بحفايتها البالية والمكشوفة من الخلف (ويسمونها "الفقراوية") بين الصخور والأشواك وعلى التراب بكل ما اوتيت من قوة ، وكانت الأشواك تلسع مؤخرة قدميها المكشوفين ، حيث قطعت الطريق بين بيتنا والعيادة مقاطعة لتصل بوقت أسرع ، ونزلت القروش بعد هذه الشهقة القوية من فمي على الأرض ، وتنفست والدتي الصعداء وهي تلهث من شدة التعب والفزع ، وجلست على صخرة بيضاء ممسكة بي تقبلني تارةً وتضربني بخفة على مؤخرتي تارة أخرى وتنتزع الأشواك التي غرزت بكعبها ، وحمدت والدتي الله وشكرته وتضرعت اليه وهي جالسة على الصخرة رافعة كفيها للسماء ممتنة بعرفان الله ولطفه بحالي وبحالها الذي كان أسوأ من حالي ، ثم نهضت وأمسكتني بيدي ، وقرصتني بأذني وأنبتني على فعلتي الخطيرة وهي تقول "يلعن أبو منين ما انت ، نشفت دمّي وقطعت نفسي وهديت حيلي يا حريق الوالدين" ، وظلت يدها تضغط على أذني بحنية بباطن إصبعيها عقاباً لي ، ناسية القروش وربما قاصدة ومتعمدة نسيانها فرحة بالفرج وتضحية بها فداءً لي ، أو نافرة من فالها السيء ، فتمنعت أنا عن المشي معها ، وأدرت رأسي للخلف وعيني على القروش التي غاصت بالتراب في السهل وتلونت بلونه الأحمر ، وأصررت على التقاطها من بين التراب والعودة بها لأحقق حلمي في شراء سيارة مصنوعة يدوياً من الأسلاك (القضبان المعدنية الرفيعة)، إذ كان يصنعها ابن جيراننا الذي يكبرني سناً ، ويبيعها للأولاد بسعر خمسة قروش حمراء أو شلن أبيض للسيارة الواحدة ، حيث بقي على جمع المبلغ ثمن بيضتين مضمونتين بوعد من والدتي وفي أقرب فرصة ممكنة، حيث كانت ثلاث دجاجات ترقد استعداداً للبيض في المراقد المخصصة لهن لذلك. وكنت إزعج الدجاجات الراقدات بزياراتي المتكررة لهذه المراقد استطلع الموقف وذلك انتظاراً للحظة الحقيقة بنزول البيض على القش. والذهاب به ساخناً الى البقالة إن لم يمر علينا بائع البيض المتجول (ابو حسن) بسلته المصنوعة من القضبان الحديدية ، حيث كان يشتري البيض من أهل القرية ويجمعه ، ثم يذهب به الى الخليل على حماره مقاطعة عن طريق حلحول وفي الصباح الباكر بعد صلاة الفجر مباشرة ليبيعه بسعر أفضل بقليل من سعربقالة القرية.
    وبعد أن انتهى من حديثه ، انتبه على آمنة ، حيث كانت عيناها الحوراوتان من فوق أنفها الأخنس الدقيق تحدقان في تقاطيع وجهه ، ويغوص ضوؤهما المنبعث في أعماق بحر عينيه الواسعتين الحادتين ، ويتخلل حواجبه السوداء الكثيفة ، وشعره الخيلي المتدرج الكثيف ، وقسماته الكنعانية الأصيلة ، وبادلها نفس النظرات الصامتة المحدقة ، وضوء عينيه المنبعث يكشف المزيد مما تخبأ من أسرار جمالها وانوثتها الرقيقة الجميلة ، وران بينهما صمت وسكون ، وكأنهما يقرءان بصمت في كتاب واحد مكون من فصلين متكاملين ، لكنهما متباعدين ، حيث انشق الكتاب الى فصليه وانشطر بفعل أياد آثمة ، وكأن كل واحد منهما يقرأ فصلاً مختلفاً عن قرينه ، ولا يكتمل معنى كل فصل الاّ بقراءة الآخر ، ويحكي الكتاب قصة شاب وفتاة من بقعتين جغرافيتين متباعدتين لكنهما تقعان في وطن واحد ، ويغذيهما قلب واحد نابض بالحب وبالقداسة وعبق التاريخ ودماء الشهداء ، جمعتهما الأقدار غير المحمودة التي حلت بوطنهما ، ليعيدا توحيد الفصلين في الكتاب المشطور من أجل اكتمال المعنى المبتور ، وهنا وفي هذه الأوقات الصامتة شعرا بقوة جذب لا إرادية تشدهما نحو بعضهما البعض ، وتمنيا لو أن السنسلة التي تفصل بينهما قد سويت بالأرض ليعيدا الكتاب الى وضعه الطبيعي ، ولكن عودة الوعي واستيقاظ العقل ناداهما بالتريث وشدهما بحباله القوية للخلف متغلباً على العاطفة والغريزة الفطرية بخيوطها الرقيقة اللطيفة المرنة والتي لا تنقطع بالمد والجزر ، بل تتمدد بوهج الصبر والثبات على المباديء والتصميم على معانقة الهدف لتستوعب وتتفهم الواقع ، من أجل تغييره ليتواءم مع نسيج الأحلام والأماني المشروعة ، وعندئذٍ يأذن بتحقيقها ، ويحولها الى حقيقة ماثلة ومجسدة على ارض الواقع ، وذلك في انتظار أن يجمعهما الله على قوانينه وسننه في الحياة. فامتثلا صاغرين لهذا النداء. وحانت لحظة الوداع القاسية ، حيث لم يشعرا من قبل بقسوة الوداع كما شعرا بها هذه المرة ، نظراً لاقتراب موعد الإستحقاق ونضوج الثمر وحلول أوان القطاف ، مما قصّر المسافة الزمنية التي تفصل بينهما ، وبالتالي زاد من قوة الجاذبية واللهفة الفطرية الغريزية ، ولكن الأمل باللقاء ثانية ، والعمل الجاد على تحقيق الهدف النهائي الأسمى وهو الوحدة الإندماجية بروابط السكينة والمودة والرحمة ، وعلى هدف الشراكة التضامنية المصيرية الرابحة ، مما خفف من هذه القسوة على نفسيهما ، وتبادلا تحيات الوداع بصمت وبغصة وهما يبلعان ريقيهما ، ومضى كل واحد منهما في طريقه والى غايته وهو يحلم بلحظة الحقيقة ويتخيلها.
    يتبع الجزء الثامن عشر
    بقلم أحمد ابراهيم الحاج
    اياد النمراوي
    اياد النمراوي

    { مشرف }


    آمنة  و خليل/الجزء السابع عشر Stars15


    الجنس : ذكر
    البرج : الجدي
    عدد المشاركات : 2028
    العمر : 46
    البلد : الاردن
    نقاط النشاط : 982
    الاعجاب : 7
    المهنة : آمنة  و خليل/الجزء السابع عشر Accoun10
    الدوله : فلسطين

    البطاقة الشخصية
    my sms:

    آمنة  و خليل/الجزء السابع عشر Empty رد: آمنة و خليل/الجزء السابع عشر

    مُساهمة من طرف اياد النمراوي الإثنين 14 مارس 2011 - 10:28

    مشكور

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة 20 سبتمبر 2024 - 8:37