منتديات خاراس الرسمية

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    الجزء السادس من رحلة في غياهب المجهول

    أحمد ابراهيم الحاج
    أحمد ابراهيم الحاج

    {{ كبار الشخصيات }}


    {{ كبار الشخصيات }}


    الجنس : ذكر
    البرج : الحمل
    عدد المشاركات : 231
    العمر : 72
    البلد : فلسطين - خاراس
    نقاط النشاط : 204
    الاعجاب : 4
    الدوله : فلسطين

    الجزء السادس من رحلة في غياهب المجهول Empty الجزء السادس من رحلة في غياهب المجهول

    مُساهمة من طرف أحمد ابراهيم الحاج الثلاثاء 30 نوفمبر 2010 - 13:31

    الجزء السادس من رحلة في غياهب المجهول
    خرجنا للتو لنتأكد من الخبر ، خبر الهزيمة العربية وتراجع جيوشها لخط الدفاع الثاني على كل الجبهات ، وبدأت فلول العسكريين المنسحبين تؤكد الخبر الصاعق ، وبدأت قصص الهزيمة تبث علينا من القادمين من أرض المعركة يتناقلها الناس ، ولم نتقبل استيعابها أو تصديقها بعفويتنا وسذاجتنا وسطحيتنا وبعدنا عن الواقع المر الذي كانت تعيشه أمتنا العربية ونعيش فيه نحن في عدم فهمها وفهمنا لقوة العدو ، نحلق في خيال الحلم دون العمل لتحقيقه، وعدم إعدادها للمعركة في كل الإتجاهات من إمكانات تعبوية مادية ، ومن إمكانات تخطيطية وعوامل وحدوية وتنسيقية ، ودون رسم للأهداف والخطط والآليات لتحقيق النصر أو حتى الحفاظ على حدودنا في ذلك الوقت. وهذا ما لم نكن نفهمه جميعنا وفهمناه فيما بعد. توجهنا الى الأغوار لنقف بأنفسنا على صحة الخبر والحقيقة لنستطيع تصديقهما ، ووصلنا الشريعة (نهر الأردن) ، وفي طريقنا رأيت جثة رجلٍ ضخمٍ ميت ومتفحِّم ، رأيت هذا المنظر لأول مرة في حياتي،والذي فتح الى نفسي درباً ضيّقاً لتصديق الخبر لهول ما رأيت ، فبدأ ريقي يجف ، وزاد من جفافه حرّ الغور ، وشعرت لأول مرة بطعم غريبٍ مُرٍّ في فمي ، وبمزاجٍ سوداويّ ، وعلى الشريعة انفتح طريق التصديق للخبر واسعاً ومعبَّداً في ذاكرتي ، حيث شاهدنا جموع النازحين تجتاز النهر من عائلات الجنود والموظفين الذين يعملون في الضفة الشرقية من النهر ، شاهدت النساء والأطفال والشيوخ وبعض المنسحبين من الجيش ، الأطفال تصرخ على أكتاف أمهاتهم من الجوع والعطش ، والنساء مكفهرات الوجوه ، ترهق وجوههن غبرة المعركة والطريق الطويل الذي سلكنه للوصول الى الضفة الشرقية من النهر ومرارة الهزيمة وصدمتها لنفوسهن المتكسِّرة، شاهدنا مشاهد الهزيمة على الواقع ، وأخبرنا القادمون من الضفة الغربية أن الجيش الإسرائيلي يعسكر في أريحا ، وأنه احتلّ أريحا أولاً ثم رجع لاستكمال الإحتلال للضفة كاملة وكأنه في مهمة سهلة وبسيطة وميسورة. انهار فينا الأمل وسقط الحلم الجميل الذي راودنا كثيراً سقوط الصخرة من علوٍّ شاهق في وادٍ سحيقٍ متدهور ، واستقرّت في قلوبنا تثقلها باليأس والإحباط، وانهارت ثقتنا في أنفسنا انهيار الجدار المتصدِّع مرة واحدة دون سابق إنذار ، فكانت الصدمة صاخّةً وعنيفة وشديدة شدة الإعصار ، وزلزلت الأرض من تحت أقدامنا ، فتحوَّل بستان الأمل الى أرضٍ خراب جدباء قاحلة عصفت في عيوننا غبار الهزيمة. وكان السقوط المفاجيء من العلو الشاهق في كبد السماء يشبه سقوط القبرة كالسهم الى عشها لتطعم أولادها ، بينما كان سقوطنا نحن من العلو الشاهق الى الهاوية السحيقة مُبعدين عن عش العائلة خارج حدود الوطن مشردين نازحين مبعثرين مشتتي الفكر في توهان لا ندري له نهاية ولا ندرك له حدوداً.
    رجعنا في المساء الى البيت ومعنا بعضاً من أقاربنا ومعارفنا الهاربين ، واستمعنا الى خطاب الملك حسين الذي كانت تعيده الإذاعة الأردنية يقول لجنوده : بأسنانكم بأظافركم والى خطاب الزعيم جمال عبد الناصر والذي أعلن فيه الهزيمة محملاً نفسه مسؤوليتها ومتنحياً عن الرئاسة لزميله زكريا محيي الدين ، ولم يعد أمامنا بدّاً من التصديق الكامل الواضح والصريح للهزيمة. ولأول مرة سمعنا خطاباً منكسراً من عبد الناصر كانكسار الضوء في الماء. انكسار ضوء الأمل في مياه الحقيقة المؤلمة والصاعقة والمرة مرارة لم نعهدها من قبل بل عهدها آباؤنا وأجدادنا عام 1948.
    بدأت أفكِّر في أمي وأبي وإخواني وأخواتي في الوطن ، وتخيلت منظر العساكر اليهود وهم يقتحمون بيتنا ، ويأخذون أبي وإخواني ويروعون أمي وأخواتي ، بل إن بعض القادمين أخبرنا بأنهم يسوقون البشر في كل مدينة وقرية يدخلونها ، ولم تغب عنّي صورة أمي بالذات لحظة واحدة ، وكيف سيعاملها الإحتلال وأحياناً اتخيل ما كان يرويه بعض المبالغين من أنهم يقتلون البشر أينما حلّوا ، فكنت اتخيّل ذلك في أمي وأبي وأخواتي وإخوتي ، انتابني شعور بالإكتئاب والحزن العميق ، وشعورٌ بالقلق والتوتر والأرق وقلة النوم وقلة الشهية للطعام ، ولمّا قرأت عن الإكتئاب فيما بعد والذي كنت أسمع به دون أن أصدّقه إكتشفت أنه هو الذي كان يراودني في ذلك الوقت. وقد خطر على بالي أن أطلب من أخي مراجعة طبيب نفسي لعل النوم الهاديء يزورني ، لكنني كابرت وعدلت عن ذلك ، فالمصيبة لم تحل بي وحدي ، ومرّت علينا الأيام ثقيلة وبطيئة نحاول الصحوة من الصدمة ونقاوم الإكتئاب الذي اعترانا ، وكنا نزور المدارس في عمان والتي أصبحت مأوىً للمشردين للتعرف على أقاربنا ومعارفنا واستطلاع ألأخبار من داخل الوطن وكانت جموع المشردين تنزف من الضفة الغربية وتصب في الضفة الشرقية ، وأصبح بيت أخي كالمخيّم الكشفيّ ، وكانت له ساحة كبيرة مكشوفة ينام بها الرجال ، وتنام النساء في الغرف ، ولا أبالغ إن قلت بأنه كان مأوىً لما لا يقل عن خمسين رجلاً وطفلاً وامرأة في حين أنه كان يتألف من غرفتين ومطبخ وحوش. وكان المطبخ يستغل للنوم.
    التقيت في أحد المدارس في عمّان باستاذ اللغة الإنجليزية (فخري العزة) والذي كان يدرسني في المدرسة الإبراهيمية بالخليل وكان من ضمن النازحين والمقيمين في المدرسة ، وكان أخبرني قبل انقضاء العام الدراسي بأنه رشحني عن المدرسة كلها ، لألتحق بمخيم تعليمي للغة الإنجليزية لطلبة مختارين من مدارس المملكة يقام في تركيا ، وسألته عما تم في الموضوع ، فأفادني بأنهم رفعوا اسمي الى وزارة التربية والتعليم لأكون من ضمن الطلبة المختارين وأن الموافقة بمثابة تحصيل حاصل ولكنه أعقب بأن ذلك يخضع للظروف الجديدة الطارئة على البلد.
    انقلب حالي رأساً على عقب ، وتبدلت أحوالي من سعادة واستمتاع بأجواء المدينة ، الى تعاسة وضجر وملل ، فامَّحت من ذاكرتي أيام المدينة وانسحبت لصالح أيام القرية ، كنت في القرية إذا اعتراني ضجر أو ملل ، أخرج للطبيعة الخلابة في رحلة علاجية لإزالة القلق والتوتر والضجر والملل ، أناجي الطبيعة وأسرح بنظري بعيداً في الحقول والطرقات ممتداً ببصري في عالم الجمال ، ومنصتاً بسمعي لزقزقة العصافير ، وأصوات الرياح تداعب الشجر ، والى خرير الماء في الجداول ، وأقف على تلٍّ أشاهد غروب الشمس الجميل وأرقبها وهي تتوارى بين التلال والجبال ، وأداعب خيالي ، واستنهض مواهبي وقدراتي في التعبير عن جمال الطبيعة وجاذبيتها وسحرها في إزالة الضجر والملل ، وهذا ما صرت أفتقده في المدينة ، أهرب من البيت لعلاج الضجر والملل فأصطدم بضوضاء المدينة فتزيدني ضجراً على ضجر ، ولم تعد ملذات ومغريات المدينة تعوض شوقي وحنيني الى الوطن ، افتقدت حنان الأم ، وافتقدت نصائح الأب ، وتبقى صورة أمي في خيالي لا تفارقني أبداً ، وصار يراودني شعور بفقدان كل ذلك ، وانعدم لدي شعور العودة في ظل الهزيمة ، وبدأت أشعر بأن الحرمان من الوطن يطبق على صدري ، فيضيق صدري منه ، أقاوم الحنين الى الوطن والأم والأب ولكن مقاومتي لذلك كانت أضعف من فرط الحنين والشوق الذي يغالبني ويشدني وأهرب منه وأخفف من وطأته بالسرحان متخيلاً نفسي عائداً الى وطني أمارس هواياتي ومواهبي التي غذاها جمال الوطن وحضنه الدّافيء.والذي كان يخرجني معافاً من كل ضائقة. لم أعد أعبؤ بطعام المدينة وجمال فتياتها واحتل ذاكرتي وعسكر فيها ذكريات أيام الوطن ومعطياته وهباته من الحنان والدفء وبلسم العلاج النفسي. فسيطر على فكري وعقلي وعاطفتي الرجوع الى الوطن ، ولكن كيف لي أن أحقق هذه الرغبة الجامحة في نفسي؟
    كنت أصحو في الصباح الباكر كل يوم ، أتناول فطوري بلا شهية للأكل ، وأذهب لسوق السكر ، وألتقي مع أهل بلدي من النازحين قسْراً وطواعية في المقهى المعهود ، وكنا نتلهّى بلعب الورق ونستطلع أخبار الوطن من القادمين الجدد ، وقد خفف من شعوري بالقلق ما سمعته من أخبار الأهل بأنهم بخير وخاصة أميّ ، ولم يمسهم سوء ، وبدأ بعض الناس يعودون تسلّلاً الى أرض الوطن ، يساعدهم في ذلك بعض المتطوعين الذين يعرفون الطرق للتسلل للوطن ، وتتبعنا أخبار العائدين واستفسرنا عن طرق العودة وأساليبها. فاستحسنت الفكرة وبدأت أعمل لتحقيقها وصارت هدفاً لي ولصديق من قريتي اسمه رضوان عبد الرحمن رضوان عطوان كان أقل منّي بصف دراسي ، وبدأنا نخطط للعودة من هذا الطريق غير المشروع من قبل سلطات الإحتلال ، والذي شرعه الله لنا وأباحته كل الشرائع والقوانين.
    .................................................................
    يتبع الجزء السابع والأخير (مغامرة العودة والرحلة من عمان الى القرية في الضفة الغربية)
    أحمد الحاج

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة 22 نوفمبر 2024 - 20:25