هو وهي والخادمة (4)
الجزء الأخير ..........................................................................................................
عادت رنا من مراثون لقاءٍ انتهى بضربات الجزاء الترجيحية في مرحلة الذهاب ضمن دوري تجمع نساء الأصدقاء والجيران، وكان وجهها مشرقاً متورداً من الهدوء والإستقرار والأمن والأمان ، فوجدت زوجها سعيداً يقهقه ويداعب ابنهما ليث الذي استعاد بريقه وصحته ونشاطه بعد أن تخلص من رعاية الخادمة له، فقال لها فراس: انظري يا رنا كيف تبدلت أحوالنا وانقلبت عقباً على رأس، وكيف تحسنت صحة ليث، والله لا أحب أن أغادر البيت لشعوري بالحرية في بيتي مع زوجتي وابني، ولا تتصوري كم أشعر الآن بالإستقرار والراحة، ما رأيك أن تستقيلي من العمل ونستغني عن الخدامات لنبقي على هذه السعادة تخيم على عشنا. والله الحياة أحلى بدون خدامات.
قالت رنا: لقد جئتك من هذا اللقاء بخبر سار.
وقال لها : خير يا طير ، شو في جديد ، ربنا يستر من جمعات النسوان. وين في تخفيضات اليوم ؟ بس عسى يكون سوق في مواقف وما في زحمة.
فردت عليه: لأ ما حزرت، القصة مش تخفيضات وإنت رحت بعيد يا حياتي، الخبر سوف يحل مشكلتنا مع الخدم يا فراس، لقد عثرت على الخادمة المناسبة وبالصدفة، ورب صدفة خير من ألف ميعاد. سبحان الله، دايماً الحلول بتيجي على أهون الأسباب.
امتعض فراس من داخله، ولكنه أبقى على تباشير السعادة مرتسمة على وجهه في مقاومة مشروعة للإمتعاض والنكد وقال: هات ما عندك ولو أنني غير متحمس للموضوع.
رنا : لا تحبطني من أولها ، تفاءلوا بالخير تجدوه، يا سيدي العزيز هذا صاحبك المهندس هيثم، صديق الطفولة والمراهقة، واليّ أهله اصحاب أهلك الروح بالروح، وبتعرفوا بعض إنتو وايّاهم من أيام زمان. واليّ كنا نزورهم يوم ما كان هيثم ساكن مع اهله. اليوم كانت زوجته معانا في الجمعة، وسمعتها بتحكي إنوّ أهل جوزها بدهم يروحوا نهائي ويستقروا في الأردن.
فقال لها فراس : وبعدين ، شو نهاية هالخبرية اليّ مبيّن عليها مش ولا بد.
رنا : خير البر عاجله، اتصل بهيثم واحكيلو عن خدامة أهله، بدنا ايّاها، يا الله شو شكرت فيها زوجة صاحبك هيثم، وأنا تقريباً حجزتها، بس الحجز بدو تأكيد منك، وأكدت على مرت هيثم ما يغلطوا فيها لحدا، ترى ناس كثير طالبينها بدهم اياها، ويمكن هلاّ هيثم صار معاه خبر، بس لازم تأكد عليه.
فراس: الله يرضى عليك يا بنت الحلال تفكينا من هالورطة، إنسي موضوع الخدامات، إحنا ما تعلمنا من كل الدروس والتجارب اليّ صارت معانا، لا تصدقي حد أبداً، وخذيها قاعدة، والله ما في خدامة مليحة، بحلف هاليمين ورزقي ونصيبي على الله. قال شو برميك على المرّ "الاّ اليّ أمرّ منّو".
رنا : يعني هو أنا كاينة أقل من كل هالنسوان يا ابو الفرس، أي بس لو شفت اليوم ، كل وحدة منهن كانت حاطة خدامتها على جنبها، وقاعدة وحاطة رجل على رجل ومشخصة ومتستة بس تتأمر، هاتي، وناوليني، وديري بالك على البنت والولد ورضعيهم ومسحيلهم، وروحي وتعالي، وجيبي لي العباية والمنديل، واحملي الولد والاّ البنت. وحضري لي الأرقيله وتعال وتفرج.
فراس: لأ يا أم الروم، إنت مش أقل من النسوان بفهمك وبعقلك وتعليمك وثقافتك، يمكن تكوني أقل مادياً، وهذا ما هو عيب ولا حرام ولا نقص، فشروا كل النسوان، لكن بقول: الله يذكرك بالخير يا يمه، خلفتي اطنعشر ولد وبنت ورضعتي كل واحد لا يقل عن سنة ونص، وعمرك ما احتجتي خدامة الاّ يوم ما مرضتي بالدسك، الله يشفيكي يا رب وتقومي بالسلامة بعد العملية، وساعتها بتشوفي كيف بتستغني عن الخدامة وبتصير مثل الفريرة بالبيت. يعني أنا شايف إنوّ الخدامة صارت من المظاهر والكماليلات في بيوت الناس. بس الكماليات والمظاهر صحيح مصاريف زايدة، لكن ما بتوجع الراس ولا بتجيب المشاكل والمصايب مثل الخدامات.
رنا : يعني إنت بدك تعيشني بعباية إمك وامي وانت تعيش بجلباب ابوك وابوي، الزمان اتغير وتطور، بدنا نمشي مع زمانا مش مع زمان غيرنا. لا تضيع الموضوع، رح اجيبلك اللاسلكي واتصل مع هيثم هلاَ عالحارك، الخدامة مواصفاتها مثل ما بدك، سيريلانكية وعمرها فوق الأربعين، وسودة مثل زر البيتنجان بس مش البيتنجان البتيري، وبيقولوا لغتها الإنجليزية لبلب، خليها تعلم ليث من وهو صغير، وكاينه مشتغلة بالأردن، يعني لما نسافر إجازة بنوخذها معانا وبترتاح من الخدامات في الأردن، مهي الخدامة بالأردن صارت بخمسميت دينار بالشهر يا حبيبي إذا ما معك خبر. أحسن من راتب المهندس والدكتور، يلّه يا ابو الفرس خلصنا عاد واتصل قبل ما تروح علينا.
فراس: ليكون بتفكري الخدامة بتوخذ كل الراتب يا عيوني، مكتب الإستقدام بعطي الخدامة ميت دينار توكل وتشرب منهم، والباقي لجيب صاحب المكتب، وتصوري عاد لمّا يكون عند الواحد عشر خدامات كم بطلع بالشهر، مهي صارت التجارة بالبشر مربحة، ومكاتب الإستقدام صارت أكثر من عيادات الأطباء وأكثر من مكاتب العقار. والله بعرف واحد معاه شهادة دكتوراه في الأدب العربي، ترك التدريس بالجامعات وفتح مكتب استقدام وصار من هوامير البلد، وندم على كل أيام التدريس، وبيقول عنها كانت مضيعة للوقت وعنوان لقلة القيمة. يعني بالعربي الفصيح تجارة الرِّق اليّ كانت على زمان الجاهلية قبل الإسلام رجعت بس بشكل مغلف بغلاف حضاري وبالقانون. ومثل ما بيقول المثل "رزق الهبل على المجانين"، مجتمع مظاهر بحب الفشخرة والكبرة ولو على خازوق، وصارت الخدامة في البيت عنوان للهيبة والقيمة والم.......، وصدقيني في ناس بيجيبوا الخدامة، وما بدفعولها رواتبها وبوكلوا حقوقها وبضربوها وبهينوها، بس من شان يقولوا عنهم الناس عندهم خدامة. وفي الأخير ومن كثر الظلم بتنتقم منهم الخدامة وبتعمل جريمة في البيت وبتهرب إذا قدرت والاّ بتطربق الأمور على روسهم وراسها، من منطلق عليّ وعلى أعدائي وغريق لا يخشى البلل.
ورضخ فراس لمطلب زوجته دون قناعة ، فتناول منها التلفون وهو يقول "إن شاالله بنلاقيها رايحة" واتصل على صديق عمره هيثم يسأله عن خادمة أهله، وقال له فراس وعلى أمل الصداقة والعلاقة الطويلة بين العائلتين: مثل ما يطلب العم ابو هيثم أنا مستعد. مهو بمقام والدي، مش رح يطمع فيّ ، بس يا خوي الله يوفقك تحجزلي إياها. فوعده هيثم بالإتصال بوالده والتأكيد عليه أن لا يتنازل لأحد عن الخادمة. ورتب الأمر بين أبيه وفراس للتفاهم حول الموضوع.
ذهب فراس وزوجته وهيثم وزوجته لزيارة والد هيثم ووالدته وللتفاهم حول طلباتهم بخصوص نقل كفالة الخادمة. وبعد تقديم واجبات الضيافة ، بدأت المشاورات حول موضوع الخادمة.
فراس : والله يا عمي إحنا شاكرين جداً إلك ولخالتي لأنكو ما فرطتوا بالخدامة لناس غيرنا، وأبوي بسلم عليك كثير كثير، وكمان الوالدة بتسلم عليك يا خالتي ام هيثم. ودايماً بنتذكر أيام زمان وسهراتنا مع بعض لما كنت أنا وهيثم صغار، وكنت إنت وابوي تلعبوا الشدة (الورق) مع اصحابكم. سقى الله على هذيك الأيام الحلوة، والله مبين اليوم اليّ بروح أحسن من اليّ بيجي. ما عدنا نجتمع مثل أول. ولا نشوف بعض الاّ في المناسبات. بنركض على هالدنيا ومش ملحقين.
ابو هيثم : الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، شوف يا عمي يا فراس، أذكر الله وصلي على النبي، والله إني بعتبرك مثل ابني هيثم ، وكديش (وقديش) الناس بتطلب هالخدامة، سمعتها مثل الليرة الذهب، لكن مجرد ما سمعت وعرفت إنك بدك إياها، رفضت كل العروض، وشطبت على كل الناس، وقلت ما بستاهلها الاّ إنت، مش في وجهك بحكي هالهرج، بس هذي الحكيكة (الحقيقة) والواكع (الواقع).
فراس : طيب شو طلباتك يا عميّ ومتى بنقدر نروح الجوازات عشان تتنازل عنها.
ابو هيثم : ترى جيراننا بدهم اياها، وغيرهم وغيرهم كثير من معارفنا مش ملحقين نرد على التلفونات، وكالوا (قالوا) لي مثل ما بدك بنعطيك، وحتى دفعولي فيها ثمن آلاف ريال صافي من دون مساومة ومفاوضة، وصدقني لو بدي أفتح المجال للمزاد الاّ توصل عشر آلاف ريال صافي ، وهم يطّبلوا بنقل كفالتها وكل الرسوم والمصاريف والذي منّو، وعلى شانك إنت ولأنك في بيتنا، بكفي منك سبع آلاف وخمسميت ريال صافي، يعني الرسوم والمصاريف عليك. بس وحتى تكون بالصورة رسوم نكل (نقل) كفالتها اربع آلاف ريال مش ألفين، عشان هذي المرة الثانية اليّ بتنتكل (بتنتقل) كفالتها وإنت عارف الكوانين (القوانين) في البلد.
وهنا ارتبك فراس ، وأخذ يبلع ريقه استغراباً مما سمع، وامتقع وجهه بالصفار، وبدت عليه الحيرة والتردد بالكلام ، حيث كان متوقعاً أن لا يطلب منه ابو هيثم الاّ الرسوم، وأن يتنازل عنها بدون مقابل نظراً للعلاقة الوطيدة والقديمة بين العائلتين. وأحس بأن آماله كأنها كانت صرحاً من خيال فهوى مرة واحدة. ولاحظت ام هيثم الدهشة والإرتباك على وجهه، وقالت: وأنا بدي أمون على ابو هيثم، وكمان هيّ مني خمسميت ريال من شان ام فراس، يعني بكفي منك يا بنيي سبع آلاف ريال.
قال فراس وقد أحرج ووضع في موقف لا يحسد عليه ونظر لزوجته رنا نظرة عتاب قبل النطق بالايجاب: اليّ بتشوفو يا عمي الحج بمشي. ما رح نختلف. بكرة يعني بتلاقيني بالجوازات؟
ابو هيثم : على خيرة الله يا ابني ، بكرة الساعة سبعة ونص بتلاكيني (بتلاقيني) باب الجوازات. المهم بدي أسألك : إنت محافظ على الصلاة ، وخاصة صلاة الفجر، فرد فراس بالإيجاب.
انتهت السهرة وخرج فراس وزوجته للبيت، وفي طريقهما دار بينهما الحديث التالي بعد صمت وتأفف وتذمر من فراس، وكانت رنا صامتة تتحين الفرصة المناسبة للحديث.
رنا : لا تتأفف ولا تتنفخ ولا على بالك يا زلمة، إلغي الموضوع، والله ما كنت متوقعة إنهم يطلبوا إشي، أي هي قلة مصاري عندو هالختيار، ريتو ما يشبع إن شاالله ، صحيح بني آدم ما بعبّي عينه الاّ التراب. ختيار على حفة قبره ومش عارفه شو بدو يسوي بالمصاري، قال صحاب وحباب ومعرفة قديمة، إيش حال لو ما كنتوا صحاب يا ترى، شو هالجشع هذا، هي كاينة عمارة بدو يستغني من وراها ، لأ وقال بدو يعمل عليها مزاد ، هذي تجارة بالبشر. واليّ محيِّرني إنوّ مربي هاللحية ومغطية على صدره، وعامل حاله داعية وشيخ ومفتي، وقلب السهرة كأنها خطبة جمعة، وما بحكي الاّ قال الله وقال الرسول والحجاب للمرأة. طيب يهدي كنتو وبناتو قبل ما يهديني إلي بطلعوا بدون حجاب.
فراس وقد انفجر غاضباً معبراً عن استيائه وقال : إنتِ آخر مين يتكلم في هالمواضيع، يا ما قلتلّك استقيلي وسيبينا من هالموضوع الزفت والشؤم علينا، يعني حطيتيني بهالورطة وهالموقف البايخ وعاملة حالك صاحبة مباديء هلاّ. وصرت تتكلمي عن حقوق الإنسان والطبقات الكادحة. كيف بدي انسحب وابطل بعد ما ارتبطت من لساني، ما سمعتي بيقول طلبوها جيرانا وغيرهم وغيرهم ورفضت وحجزتها من شان خاطرك. والله يمكن ما حدا طلبها، ولا حدا سامها، يا ربي سامحني بهالكلمة، لأنها انسانة مش حيوانة ولا سلعة. والاّ كيف الناس بتوفر مصاري يا فهيمة، مش مثلنا، يعني كل اليّ اشتغلتيه ما بيجي نص خسايرنا من ورا الخدامات يا فالحة.
رنا : أنا بكرة بتصل بمرت هيثم وبلغي الموضوع إذا إنت محرج وخجلان . حطها فيَّ وارتاح خلاص لا تنقهر ولا تزعل حالك. الناس بتكتب كتابها وبتبطل، ما فيها إشي. لساتنا على الشط.
فراس: إنتِ بدك تخليني شرابة خرج بدون قيمة وتعكسي الآية، مثل حكاية الأسد والواوي، أنا بربط وانت بتحليّ على كيفك ومزاجك، يعني أنا مش رجال وما إلي كلمة، ولا بنشد وبنوثق في رباطي، خلاص يا رنا، ما في رجعة في كلامي لو مهما خسرت وأوعك تعمليها من وراي. بعدين بتصير مشكلة للسما. تراها طالعة معاي للأخير، بطقيني على خشمي بفقع مثل البلون في عز تموز.
رنا : العملية ما هي مرجلة، هذا اسمه عناد ومكابرة، وبعدين هذي مصلحتنا، واليوم الناس ما بتتعامل الاّ بالمصالح مثل ما شفت من الشيخ ابو هيثم. زمان المرجلة راح وولّى يا حبيبي. والله يرحم المراجل والأخلاق والمباديء. وإذا بدك تظل تتمسك بالمباديء عمرك ما بتوصل. وإنت حر عاد.
عادا الى البيت متنافرين متخاصمين، وظلاً صامتين، وناما متباعدين وظهريهما متقابلين، على أمل أن يفيقا من النوم وقد هدأت الأنفس، وقد امتصا الصدمة وتغير الحال للأحسن.
وفاقت هي مبكرة على غير عادتها، وأعدت له فطوراً من الطعام الذي يحبه ويشتهيه، حيث لاحظت عليه وهو يتقلب ليلاً بالفراش، مما أثار قلقها خوفاً عليه، وأشعرها بخطئها وتسرعها في موضوع الخادمة. وأفاق هو من نومه متكدراً، وتحاشى النظر اليها، ولكنها تعمدت مواجهته وجهاً لوجه ولما اصطدمت عيناها بعينيه، ابتسمت بوجهه وكأنها تستسمحه، ودعته للفطور، فانخفض مستوى الكدر (الأدرينالين) في دمه تدريجياً في عملية إعادةٍ لتطبيع العلاقة بينهما. وشربا القهوة سوياً ولكن ليس كالعادة. وأعادت عليه طلبها بالغاء الموضوع لكنه ركب رأسه ورفض في عناد ومكابرة.
واحتاجت الأزمة الى عدة أيام حتى استعادا هدوءهما واستقرارهما، ورمما علاقتهما التي توترت، وعادت المياه لمجاريها بينهما. الى أن جاءت الخادمة بعد نقل كفالتها، ودفع فراس أكثر من اثني عشر ألف ريال وكأنه يستقدم خادمة جديدة لا بل أكثر من استقدام خادمة جديدة بحوالي أربعة آلاف.
باشرت الخادمة عملها في بيت العائلة، وبعد فترة شهرين من دوامها عاد الطفل ليث لوضعه القديم في زمن الخادمات السابقات، تارة زكام ، وتارة انفلونزا مع ارتفاع بالحرارة، ومرة التهاب بالأمعاء، وأخرى بالقصبات الهوائية والرئتين، وتحول البيت الى صيدلية لأدوية الأطفال وخاصة خافضات الحرارة والمضادات الحيوية وأدوية السعال من كل الأنواع. وأثار وضع الطفل القلق في نفس والده الطبيب. سيما وقد ظهرت على الطفل أعراض تدعو للقلق والحذر والإنتباه. نعاسٌ وخمول مستمر، فقدان للشهية، واضطراب معدي لا ينقطع، وإسهال وتطريش، وحدة في الطبع وكأنه يشعر بالملل والضيق من وضعه الصحي المعتل دون القدرة على تشخيص مرض محدد يعاني منه الطفل. فلم يعد فراس يستمتع بمداعبة طفله الذي لا يصحو من خموله، ولا ينشط أبداً كغيره من الأطفال في سنه. فلم يعد يراه بصحته ونشاطه وحيويته. وصار الزوجان يتألمان لوضعه الصحي بصمت ومكابرة. وفي أحد الأيام طلب من زوجته الإستئذان وترك العمل والذهاب للبيت لمداهمة الخادمة لترى كيف تتعامل مع الطفل في غيابهم بعد أن أخذ يحلل وضعه الصحي الذي يثير القلق، وبعد استشارة زميله طبيب الأطفال في المستشفى الذي قال له: إن هذه أعراض أدوية السعال والكحة، وخاصة دواء الأكتفد، إن أخذه الطفل دون الحاجة وبكميات زائدة عن الحد. واستطرد يقول له: إسألني أنا عن الخدامات، ومن واقع الحالات التي أعاينها يومياً للأطفال، وتكون سببها الخدامة لسوء رعايتها وتقبيلها له في فمه وفي أماكن أخرى. ولكن احضره للمستشفى لفحصه وعمل التحاليل اللازمة.
ذهبت رنا مسرعة للبيت، وفتحت الباب الرئيسي للشقة بهدوء تام، ودخلت الى البيت على رؤوس أصابعها بعد أن خلعت حذاءها، ودون أن تشعر بها الخادمة، فوجدتها جالسة في المطبخ وتلبس من ألبسة رنا الداخلية التي تركتها لها للغسيل، وكانت تأكل سيرلاك (طعام الأطفال) من طبق كبير أمامها على طاولة المطبخ، وذهبت لسرير الطفل فوجدته نائماً وفي فمه رضاعة فيها قليل من دواء الأكتفد وكان الدواء قد تسرب من الرضاعة على أشداقه ، ووجدت رضاعة أخرى جهزتها الخادمة فيها ماءٌ (ربما سكبته من الحنفية) ومذاب فيه السكر. لتعطيه للطفل إن أفاق من خموله المستمر، ووضعت يدها على جبينه فوجدته بارداً جداً وكأنه قطعة من الثلج، وكانت عيناه غائرتين في وجهه الشاحب المصفر، فجن جنونها، وصاحت بالخادمة: بدك تموتي الولد يا مجرمة، بتوكلي أكل الأطفال وبتطعميه ميه وسكر يا عديمة الذمة والضمير. وانهالت عليها ضرباً بدون وعي، وانفجرت رنا بالبكاء والصراخ. تصرخ بالخادمة تارة وتنادي أمها تارة أخرى. تعاليلي يمه وشوفي حالي وحال ابني. وحملت ابنها بين يديها وهو مترنح وغير متماسك وقالت باكية ودموعها تنهمر بغزارة على خديها: آخ منك يا رنا شو مغفلة ،الله لا يجبرك ولا يعطيك العافية، أنا غلطانة بحقك يا حبيبي.يا روحي وكل حياتي إنت يا عمري. لطفك يا الله ، يا رب تشفيه ويا ريت المرض فيّ ولا فيه.
واتصلت بفراس تعلمه بما وجدت وهي باكية، وعلى الفور ترك المستشفى متوجهاً للبيت، وأحضر طفله مع أمه للمستشفى لإجراء الفحوصات اللازمة له. وتم اجراء التحاليل اللازمة للطفل، وتبين أنه يعاني من فقر مدقع بالدم (الأنيميا) أي نقص حاد بكريات الدم الحمراء، ونقص حاد بكريات الدم البيضاء (نقص المناعة)، وسوء في التغذية وبنسب تشير الى مرحلة الخطر، ويتطلب وضعه تحت المراقبة الطبية في المستشفى لمدة لا تقل عن اسبوع لمتابعته وإنقاذ حياته قبل فوات الأوان. حيث قال لهم طبيب الأطفال: إن شاء الله ربنا ستر هالمرة، والله لو اتأخرتوا يوم واحد بس الأّ الولد راح فيها، لأن مناعته متدنية وما بتحمل أي التهاب بسيط أو حتى نسمة هوا لو تغير الجو من غرفة لغرفة، هذا وإنت طبيب وزوجتك إخصائية تحاليل طبيية، كيف بدنا نلوم الناس الثانية يا فراس، حرام عليكم يا جماعة تاركين الولد تسوء صحته لهدرجة، وفي رعاية الخدامة كمان. شو مش صاحيين إنتو، والله وضعه الصحي بحزن. لكن إن شاء الله ربنا بشفيه بعد ما نعمل اليّ علينا.
وصار الزوجان يرمقان نفسيهما بنظرات متبادلة من اللوم والعتاب والشعور بالذنب والتقصير تجاه الأمانة التي وضعها الله في عنقيهما. كيف لا والآباء والأمهات من الحيوانات والطيور يرعون صغارهم بحرص وعناية شديدين. ويفرغون أنفسهم بالتناوب لحماية الصغار من الأعداء، والبحث لهم عن الطعام، والرقاد على البيض حتى يفقس. ولا يتركون صغارهم حتى يشتد عودهم، ويدربونهم على مواجهة مصاعب الحياة ويعلمونهم على الصيد لتحصيل قوتهم من خشاش الأرض، ويثقفونهم بطبيعة الحياة ودروبها ومخاطرها، ولا يتركونهم أبداً قبل التأكد من أنهم يعتمدون على أنفسهم ويستطيعون تحصيل قوتهم والدفاع عن أنفسهم ضد الوحوش المفترسة في الغاب والبر، وذلك في إطار تأدية رسالة المخلوقات وعلى رأسها الإنسان. ويبدو أن باقي المخلوقات أدت الأمانة أكثر من الإنسان الذي ميزه الله بالعقل، وأعطاه وقتاً مفتوحاً للإستمتاع بغريزة الجنس على عكس باقي المخلوقات حيث وهبها الله الغريزة وحددها بوقت معين في العام للتكاثر وبأعداد كثيرة وذلك من باب تسخيرها لخدمة الإنسان وتوفير قوته واستمتاعه بجمالها ومنافعها، والتفكر بخلقها والتعلم منها بما أودع بها الله من أسرار خلقه ومعجزاته.
ونامت رنا مع طفلها بالمستشفى، وذهب فراس باكراً الى الجوازات ليخرج للخادمة ويسفرها الى بلدها في خروج بلا عودة. وكان قد قرر أن يضع زوجته بين خيارين لا ثالث لهما، إما العمل وإما الطفل. وتماثل الطفل تدريجياً للشفاء، وخرج من المستشفى ومعه برنامج تغذية طويل الأمد، ووصية من الطبيب للمراجعة كل اسبوع للإطمئنان على استمرار التحسن في مكونات الدم.
وفي البيت نادى فراس زوجته رنا ليعلمها قراره بخصوص الإختيار بين رعاية الطفل والعمل، وقبل أن يبدأ حديثه الذي فهمت سياقه بحدسها وخبرتها بزوجها ناولته ورقة، ولما فتحها وقرأها وجد أنها صورة عن استقالتها التي قدمتها للمستشفى. فارتاح ضميره، وعادت الحياة الى طبيعتها ومجاريها السلسة النظيفة النقية، وعاد الزوجان يستمتعان بطفلهما وبحريتهما واستقلالهما في بيتهما الى أن تحين الفرصة المناسبة والآمنة لعودتها لعملها دون التأثير على واجباتها تجاه ابنها وزوجها وبيتها.
وفي جلسة أنس وسمر بين الزوجين قال فراس لرنا : هلاّ عرفت يا رنا ليش أبو هيثم كا مربي لحيته ولابس دشداشة قصيرة، طيب ما انا عارفو لعّيب شدة مرّ ومدمن وما زال، هذا يا ستي إمام المسجد اليّ بحارتهم في معظم الصلوات بطنش وما بيجي يئم بالناس في المسجد، واتفق مع ابو هيثم يئم بالناس يوم هو ما بيجي وخاصة بصلاة الفجر على أساس يعطيه نص الراتب اليّ بوخذه الإمام من الأوقاف، وبدوره ابو هيثم تقمص شخصية الإمام حتى يتقبلوه الناس. ولما روح الأردن شال اللحية والشنب كمان وصبغ شعره ولبس افرنجي يعني بنطلون وقميص وشورت وتي شيرت.
فقالت له رنا : مش قلتلّك يا فراس اليوم الناس مصالح، والله يرحم المباديء والمرجلة والنخوة والشهامة. والله الواحد بطّل يصدق حدا، وأصلاً ما في حدا اليوم لحدا. خلينا ندير بالنا على حالنا ومستقبل أولادنا لعل وعسى يرجعونّا أيام النخوة والكرامة ويرجعونّا أوطانّا ويعيدوا سيرة أجدادنا.
بقلم أحمد ابراهيم الحاج
24/2/2010م
الجزء الأخير ..........................................................................................................
عادت رنا من مراثون لقاءٍ انتهى بضربات الجزاء الترجيحية في مرحلة الذهاب ضمن دوري تجمع نساء الأصدقاء والجيران، وكان وجهها مشرقاً متورداً من الهدوء والإستقرار والأمن والأمان ، فوجدت زوجها سعيداً يقهقه ويداعب ابنهما ليث الذي استعاد بريقه وصحته ونشاطه بعد أن تخلص من رعاية الخادمة له، فقال لها فراس: انظري يا رنا كيف تبدلت أحوالنا وانقلبت عقباً على رأس، وكيف تحسنت صحة ليث، والله لا أحب أن أغادر البيت لشعوري بالحرية في بيتي مع زوجتي وابني، ولا تتصوري كم أشعر الآن بالإستقرار والراحة، ما رأيك أن تستقيلي من العمل ونستغني عن الخدامات لنبقي على هذه السعادة تخيم على عشنا. والله الحياة أحلى بدون خدامات.
قالت رنا: لقد جئتك من هذا اللقاء بخبر سار.
وقال لها : خير يا طير ، شو في جديد ، ربنا يستر من جمعات النسوان. وين في تخفيضات اليوم ؟ بس عسى يكون سوق في مواقف وما في زحمة.
فردت عليه: لأ ما حزرت، القصة مش تخفيضات وإنت رحت بعيد يا حياتي، الخبر سوف يحل مشكلتنا مع الخدم يا فراس، لقد عثرت على الخادمة المناسبة وبالصدفة، ورب صدفة خير من ألف ميعاد. سبحان الله، دايماً الحلول بتيجي على أهون الأسباب.
امتعض فراس من داخله، ولكنه أبقى على تباشير السعادة مرتسمة على وجهه في مقاومة مشروعة للإمتعاض والنكد وقال: هات ما عندك ولو أنني غير متحمس للموضوع.
رنا : لا تحبطني من أولها ، تفاءلوا بالخير تجدوه، يا سيدي العزيز هذا صاحبك المهندس هيثم، صديق الطفولة والمراهقة، واليّ أهله اصحاب أهلك الروح بالروح، وبتعرفوا بعض إنتو وايّاهم من أيام زمان. واليّ كنا نزورهم يوم ما كان هيثم ساكن مع اهله. اليوم كانت زوجته معانا في الجمعة، وسمعتها بتحكي إنوّ أهل جوزها بدهم يروحوا نهائي ويستقروا في الأردن.
فقال لها فراس : وبعدين ، شو نهاية هالخبرية اليّ مبيّن عليها مش ولا بد.
رنا : خير البر عاجله، اتصل بهيثم واحكيلو عن خدامة أهله، بدنا ايّاها، يا الله شو شكرت فيها زوجة صاحبك هيثم، وأنا تقريباً حجزتها، بس الحجز بدو تأكيد منك، وأكدت على مرت هيثم ما يغلطوا فيها لحدا، ترى ناس كثير طالبينها بدهم اياها، ويمكن هلاّ هيثم صار معاه خبر، بس لازم تأكد عليه.
فراس: الله يرضى عليك يا بنت الحلال تفكينا من هالورطة، إنسي موضوع الخدامات، إحنا ما تعلمنا من كل الدروس والتجارب اليّ صارت معانا، لا تصدقي حد أبداً، وخذيها قاعدة، والله ما في خدامة مليحة، بحلف هاليمين ورزقي ونصيبي على الله. قال شو برميك على المرّ "الاّ اليّ أمرّ منّو".
رنا : يعني هو أنا كاينة أقل من كل هالنسوان يا ابو الفرس، أي بس لو شفت اليوم ، كل وحدة منهن كانت حاطة خدامتها على جنبها، وقاعدة وحاطة رجل على رجل ومشخصة ومتستة بس تتأمر، هاتي، وناوليني، وديري بالك على البنت والولد ورضعيهم ومسحيلهم، وروحي وتعالي، وجيبي لي العباية والمنديل، واحملي الولد والاّ البنت. وحضري لي الأرقيله وتعال وتفرج.
فراس: لأ يا أم الروم، إنت مش أقل من النسوان بفهمك وبعقلك وتعليمك وثقافتك، يمكن تكوني أقل مادياً، وهذا ما هو عيب ولا حرام ولا نقص، فشروا كل النسوان، لكن بقول: الله يذكرك بالخير يا يمه، خلفتي اطنعشر ولد وبنت ورضعتي كل واحد لا يقل عن سنة ونص، وعمرك ما احتجتي خدامة الاّ يوم ما مرضتي بالدسك، الله يشفيكي يا رب وتقومي بالسلامة بعد العملية، وساعتها بتشوفي كيف بتستغني عن الخدامة وبتصير مثل الفريرة بالبيت. يعني أنا شايف إنوّ الخدامة صارت من المظاهر والكماليلات في بيوت الناس. بس الكماليات والمظاهر صحيح مصاريف زايدة، لكن ما بتوجع الراس ولا بتجيب المشاكل والمصايب مثل الخدامات.
رنا : يعني إنت بدك تعيشني بعباية إمك وامي وانت تعيش بجلباب ابوك وابوي، الزمان اتغير وتطور، بدنا نمشي مع زمانا مش مع زمان غيرنا. لا تضيع الموضوع، رح اجيبلك اللاسلكي واتصل مع هيثم هلاَ عالحارك، الخدامة مواصفاتها مثل ما بدك، سيريلانكية وعمرها فوق الأربعين، وسودة مثل زر البيتنجان بس مش البيتنجان البتيري، وبيقولوا لغتها الإنجليزية لبلب، خليها تعلم ليث من وهو صغير، وكاينه مشتغلة بالأردن، يعني لما نسافر إجازة بنوخذها معانا وبترتاح من الخدامات في الأردن، مهي الخدامة بالأردن صارت بخمسميت دينار بالشهر يا حبيبي إذا ما معك خبر. أحسن من راتب المهندس والدكتور، يلّه يا ابو الفرس خلصنا عاد واتصل قبل ما تروح علينا.
فراس: ليكون بتفكري الخدامة بتوخذ كل الراتب يا عيوني، مكتب الإستقدام بعطي الخدامة ميت دينار توكل وتشرب منهم، والباقي لجيب صاحب المكتب، وتصوري عاد لمّا يكون عند الواحد عشر خدامات كم بطلع بالشهر، مهي صارت التجارة بالبشر مربحة، ومكاتب الإستقدام صارت أكثر من عيادات الأطباء وأكثر من مكاتب العقار. والله بعرف واحد معاه شهادة دكتوراه في الأدب العربي، ترك التدريس بالجامعات وفتح مكتب استقدام وصار من هوامير البلد، وندم على كل أيام التدريس، وبيقول عنها كانت مضيعة للوقت وعنوان لقلة القيمة. يعني بالعربي الفصيح تجارة الرِّق اليّ كانت على زمان الجاهلية قبل الإسلام رجعت بس بشكل مغلف بغلاف حضاري وبالقانون. ومثل ما بيقول المثل "رزق الهبل على المجانين"، مجتمع مظاهر بحب الفشخرة والكبرة ولو على خازوق، وصارت الخدامة في البيت عنوان للهيبة والقيمة والم.......، وصدقيني في ناس بيجيبوا الخدامة، وما بدفعولها رواتبها وبوكلوا حقوقها وبضربوها وبهينوها، بس من شان يقولوا عنهم الناس عندهم خدامة. وفي الأخير ومن كثر الظلم بتنتقم منهم الخدامة وبتعمل جريمة في البيت وبتهرب إذا قدرت والاّ بتطربق الأمور على روسهم وراسها، من منطلق عليّ وعلى أعدائي وغريق لا يخشى البلل.
ورضخ فراس لمطلب زوجته دون قناعة ، فتناول منها التلفون وهو يقول "إن شاالله بنلاقيها رايحة" واتصل على صديق عمره هيثم يسأله عن خادمة أهله، وقال له فراس وعلى أمل الصداقة والعلاقة الطويلة بين العائلتين: مثل ما يطلب العم ابو هيثم أنا مستعد. مهو بمقام والدي، مش رح يطمع فيّ ، بس يا خوي الله يوفقك تحجزلي إياها. فوعده هيثم بالإتصال بوالده والتأكيد عليه أن لا يتنازل لأحد عن الخادمة. ورتب الأمر بين أبيه وفراس للتفاهم حول الموضوع.
ذهب فراس وزوجته وهيثم وزوجته لزيارة والد هيثم ووالدته وللتفاهم حول طلباتهم بخصوص نقل كفالة الخادمة. وبعد تقديم واجبات الضيافة ، بدأت المشاورات حول موضوع الخادمة.
فراس : والله يا عمي إحنا شاكرين جداً إلك ولخالتي لأنكو ما فرطتوا بالخدامة لناس غيرنا، وأبوي بسلم عليك كثير كثير، وكمان الوالدة بتسلم عليك يا خالتي ام هيثم. ودايماً بنتذكر أيام زمان وسهراتنا مع بعض لما كنت أنا وهيثم صغار، وكنت إنت وابوي تلعبوا الشدة (الورق) مع اصحابكم. سقى الله على هذيك الأيام الحلوة، والله مبين اليوم اليّ بروح أحسن من اليّ بيجي. ما عدنا نجتمع مثل أول. ولا نشوف بعض الاّ في المناسبات. بنركض على هالدنيا ومش ملحقين.
ابو هيثم : الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، شوف يا عمي يا فراس، أذكر الله وصلي على النبي، والله إني بعتبرك مثل ابني هيثم ، وكديش (وقديش) الناس بتطلب هالخدامة، سمعتها مثل الليرة الذهب، لكن مجرد ما سمعت وعرفت إنك بدك إياها، رفضت كل العروض، وشطبت على كل الناس، وقلت ما بستاهلها الاّ إنت، مش في وجهك بحكي هالهرج، بس هذي الحكيكة (الحقيقة) والواكع (الواقع).
فراس : طيب شو طلباتك يا عميّ ومتى بنقدر نروح الجوازات عشان تتنازل عنها.
ابو هيثم : ترى جيراننا بدهم اياها، وغيرهم وغيرهم كثير من معارفنا مش ملحقين نرد على التلفونات، وكالوا (قالوا) لي مثل ما بدك بنعطيك، وحتى دفعولي فيها ثمن آلاف ريال صافي من دون مساومة ومفاوضة، وصدقني لو بدي أفتح المجال للمزاد الاّ توصل عشر آلاف ريال صافي ، وهم يطّبلوا بنقل كفالتها وكل الرسوم والمصاريف والذي منّو، وعلى شانك إنت ولأنك في بيتنا، بكفي منك سبع آلاف وخمسميت ريال صافي، يعني الرسوم والمصاريف عليك. بس وحتى تكون بالصورة رسوم نكل (نقل) كفالتها اربع آلاف ريال مش ألفين، عشان هذي المرة الثانية اليّ بتنتكل (بتنتقل) كفالتها وإنت عارف الكوانين (القوانين) في البلد.
وهنا ارتبك فراس ، وأخذ يبلع ريقه استغراباً مما سمع، وامتقع وجهه بالصفار، وبدت عليه الحيرة والتردد بالكلام ، حيث كان متوقعاً أن لا يطلب منه ابو هيثم الاّ الرسوم، وأن يتنازل عنها بدون مقابل نظراً للعلاقة الوطيدة والقديمة بين العائلتين. وأحس بأن آماله كأنها كانت صرحاً من خيال فهوى مرة واحدة. ولاحظت ام هيثم الدهشة والإرتباك على وجهه، وقالت: وأنا بدي أمون على ابو هيثم، وكمان هيّ مني خمسميت ريال من شان ام فراس، يعني بكفي منك يا بنيي سبع آلاف ريال.
قال فراس وقد أحرج ووضع في موقف لا يحسد عليه ونظر لزوجته رنا نظرة عتاب قبل النطق بالايجاب: اليّ بتشوفو يا عمي الحج بمشي. ما رح نختلف. بكرة يعني بتلاقيني بالجوازات؟
ابو هيثم : على خيرة الله يا ابني ، بكرة الساعة سبعة ونص بتلاكيني (بتلاقيني) باب الجوازات. المهم بدي أسألك : إنت محافظ على الصلاة ، وخاصة صلاة الفجر، فرد فراس بالإيجاب.
انتهت السهرة وخرج فراس وزوجته للبيت، وفي طريقهما دار بينهما الحديث التالي بعد صمت وتأفف وتذمر من فراس، وكانت رنا صامتة تتحين الفرصة المناسبة للحديث.
رنا : لا تتأفف ولا تتنفخ ولا على بالك يا زلمة، إلغي الموضوع، والله ما كنت متوقعة إنهم يطلبوا إشي، أي هي قلة مصاري عندو هالختيار، ريتو ما يشبع إن شاالله ، صحيح بني آدم ما بعبّي عينه الاّ التراب. ختيار على حفة قبره ومش عارفه شو بدو يسوي بالمصاري، قال صحاب وحباب ومعرفة قديمة، إيش حال لو ما كنتوا صحاب يا ترى، شو هالجشع هذا، هي كاينة عمارة بدو يستغني من وراها ، لأ وقال بدو يعمل عليها مزاد ، هذي تجارة بالبشر. واليّ محيِّرني إنوّ مربي هاللحية ومغطية على صدره، وعامل حاله داعية وشيخ ومفتي، وقلب السهرة كأنها خطبة جمعة، وما بحكي الاّ قال الله وقال الرسول والحجاب للمرأة. طيب يهدي كنتو وبناتو قبل ما يهديني إلي بطلعوا بدون حجاب.
فراس وقد انفجر غاضباً معبراً عن استيائه وقال : إنتِ آخر مين يتكلم في هالمواضيع، يا ما قلتلّك استقيلي وسيبينا من هالموضوع الزفت والشؤم علينا، يعني حطيتيني بهالورطة وهالموقف البايخ وعاملة حالك صاحبة مباديء هلاّ. وصرت تتكلمي عن حقوق الإنسان والطبقات الكادحة. كيف بدي انسحب وابطل بعد ما ارتبطت من لساني، ما سمعتي بيقول طلبوها جيرانا وغيرهم وغيرهم ورفضت وحجزتها من شان خاطرك. والله يمكن ما حدا طلبها، ولا حدا سامها، يا ربي سامحني بهالكلمة، لأنها انسانة مش حيوانة ولا سلعة. والاّ كيف الناس بتوفر مصاري يا فهيمة، مش مثلنا، يعني كل اليّ اشتغلتيه ما بيجي نص خسايرنا من ورا الخدامات يا فالحة.
رنا : أنا بكرة بتصل بمرت هيثم وبلغي الموضوع إذا إنت محرج وخجلان . حطها فيَّ وارتاح خلاص لا تنقهر ولا تزعل حالك. الناس بتكتب كتابها وبتبطل، ما فيها إشي. لساتنا على الشط.
فراس: إنتِ بدك تخليني شرابة خرج بدون قيمة وتعكسي الآية، مثل حكاية الأسد والواوي، أنا بربط وانت بتحليّ على كيفك ومزاجك، يعني أنا مش رجال وما إلي كلمة، ولا بنشد وبنوثق في رباطي، خلاص يا رنا، ما في رجعة في كلامي لو مهما خسرت وأوعك تعمليها من وراي. بعدين بتصير مشكلة للسما. تراها طالعة معاي للأخير، بطقيني على خشمي بفقع مثل البلون في عز تموز.
رنا : العملية ما هي مرجلة، هذا اسمه عناد ومكابرة، وبعدين هذي مصلحتنا، واليوم الناس ما بتتعامل الاّ بالمصالح مثل ما شفت من الشيخ ابو هيثم. زمان المرجلة راح وولّى يا حبيبي. والله يرحم المراجل والأخلاق والمباديء. وإذا بدك تظل تتمسك بالمباديء عمرك ما بتوصل. وإنت حر عاد.
عادا الى البيت متنافرين متخاصمين، وظلاً صامتين، وناما متباعدين وظهريهما متقابلين، على أمل أن يفيقا من النوم وقد هدأت الأنفس، وقد امتصا الصدمة وتغير الحال للأحسن.
وفاقت هي مبكرة على غير عادتها، وأعدت له فطوراً من الطعام الذي يحبه ويشتهيه، حيث لاحظت عليه وهو يتقلب ليلاً بالفراش، مما أثار قلقها خوفاً عليه، وأشعرها بخطئها وتسرعها في موضوع الخادمة. وأفاق هو من نومه متكدراً، وتحاشى النظر اليها، ولكنها تعمدت مواجهته وجهاً لوجه ولما اصطدمت عيناها بعينيه، ابتسمت بوجهه وكأنها تستسمحه، ودعته للفطور، فانخفض مستوى الكدر (الأدرينالين) في دمه تدريجياً في عملية إعادةٍ لتطبيع العلاقة بينهما. وشربا القهوة سوياً ولكن ليس كالعادة. وأعادت عليه طلبها بالغاء الموضوع لكنه ركب رأسه ورفض في عناد ومكابرة.
واحتاجت الأزمة الى عدة أيام حتى استعادا هدوءهما واستقرارهما، ورمما علاقتهما التي توترت، وعادت المياه لمجاريها بينهما. الى أن جاءت الخادمة بعد نقل كفالتها، ودفع فراس أكثر من اثني عشر ألف ريال وكأنه يستقدم خادمة جديدة لا بل أكثر من استقدام خادمة جديدة بحوالي أربعة آلاف.
باشرت الخادمة عملها في بيت العائلة، وبعد فترة شهرين من دوامها عاد الطفل ليث لوضعه القديم في زمن الخادمات السابقات، تارة زكام ، وتارة انفلونزا مع ارتفاع بالحرارة، ومرة التهاب بالأمعاء، وأخرى بالقصبات الهوائية والرئتين، وتحول البيت الى صيدلية لأدوية الأطفال وخاصة خافضات الحرارة والمضادات الحيوية وأدوية السعال من كل الأنواع. وأثار وضع الطفل القلق في نفس والده الطبيب. سيما وقد ظهرت على الطفل أعراض تدعو للقلق والحذر والإنتباه. نعاسٌ وخمول مستمر، فقدان للشهية، واضطراب معدي لا ينقطع، وإسهال وتطريش، وحدة في الطبع وكأنه يشعر بالملل والضيق من وضعه الصحي المعتل دون القدرة على تشخيص مرض محدد يعاني منه الطفل. فلم يعد فراس يستمتع بمداعبة طفله الذي لا يصحو من خموله، ولا ينشط أبداً كغيره من الأطفال في سنه. فلم يعد يراه بصحته ونشاطه وحيويته. وصار الزوجان يتألمان لوضعه الصحي بصمت ومكابرة. وفي أحد الأيام طلب من زوجته الإستئذان وترك العمل والذهاب للبيت لمداهمة الخادمة لترى كيف تتعامل مع الطفل في غيابهم بعد أن أخذ يحلل وضعه الصحي الذي يثير القلق، وبعد استشارة زميله طبيب الأطفال في المستشفى الذي قال له: إن هذه أعراض أدوية السعال والكحة، وخاصة دواء الأكتفد، إن أخذه الطفل دون الحاجة وبكميات زائدة عن الحد. واستطرد يقول له: إسألني أنا عن الخدامات، ومن واقع الحالات التي أعاينها يومياً للأطفال، وتكون سببها الخدامة لسوء رعايتها وتقبيلها له في فمه وفي أماكن أخرى. ولكن احضره للمستشفى لفحصه وعمل التحاليل اللازمة.
ذهبت رنا مسرعة للبيت، وفتحت الباب الرئيسي للشقة بهدوء تام، ودخلت الى البيت على رؤوس أصابعها بعد أن خلعت حذاءها، ودون أن تشعر بها الخادمة، فوجدتها جالسة في المطبخ وتلبس من ألبسة رنا الداخلية التي تركتها لها للغسيل، وكانت تأكل سيرلاك (طعام الأطفال) من طبق كبير أمامها على طاولة المطبخ، وذهبت لسرير الطفل فوجدته نائماً وفي فمه رضاعة فيها قليل من دواء الأكتفد وكان الدواء قد تسرب من الرضاعة على أشداقه ، ووجدت رضاعة أخرى جهزتها الخادمة فيها ماءٌ (ربما سكبته من الحنفية) ومذاب فيه السكر. لتعطيه للطفل إن أفاق من خموله المستمر، ووضعت يدها على جبينه فوجدته بارداً جداً وكأنه قطعة من الثلج، وكانت عيناه غائرتين في وجهه الشاحب المصفر، فجن جنونها، وصاحت بالخادمة: بدك تموتي الولد يا مجرمة، بتوكلي أكل الأطفال وبتطعميه ميه وسكر يا عديمة الذمة والضمير. وانهالت عليها ضرباً بدون وعي، وانفجرت رنا بالبكاء والصراخ. تصرخ بالخادمة تارة وتنادي أمها تارة أخرى. تعاليلي يمه وشوفي حالي وحال ابني. وحملت ابنها بين يديها وهو مترنح وغير متماسك وقالت باكية ودموعها تنهمر بغزارة على خديها: آخ منك يا رنا شو مغفلة ،الله لا يجبرك ولا يعطيك العافية، أنا غلطانة بحقك يا حبيبي.يا روحي وكل حياتي إنت يا عمري. لطفك يا الله ، يا رب تشفيه ويا ريت المرض فيّ ولا فيه.
واتصلت بفراس تعلمه بما وجدت وهي باكية، وعلى الفور ترك المستشفى متوجهاً للبيت، وأحضر طفله مع أمه للمستشفى لإجراء الفحوصات اللازمة له. وتم اجراء التحاليل اللازمة للطفل، وتبين أنه يعاني من فقر مدقع بالدم (الأنيميا) أي نقص حاد بكريات الدم الحمراء، ونقص حاد بكريات الدم البيضاء (نقص المناعة)، وسوء في التغذية وبنسب تشير الى مرحلة الخطر، ويتطلب وضعه تحت المراقبة الطبية في المستشفى لمدة لا تقل عن اسبوع لمتابعته وإنقاذ حياته قبل فوات الأوان. حيث قال لهم طبيب الأطفال: إن شاء الله ربنا ستر هالمرة، والله لو اتأخرتوا يوم واحد بس الأّ الولد راح فيها، لأن مناعته متدنية وما بتحمل أي التهاب بسيط أو حتى نسمة هوا لو تغير الجو من غرفة لغرفة، هذا وإنت طبيب وزوجتك إخصائية تحاليل طبيية، كيف بدنا نلوم الناس الثانية يا فراس، حرام عليكم يا جماعة تاركين الولد تسوء صحته لهدرجة، وفي رعاية الخدامة كمان. شو مش صاحيين إنتو، والله وضعه الصحي بحزن. لكن إن شاء الله ربنا بشفيه بعد ما نعمل اليّ علينا.
وصار الزوجان يرمقان نفسيهما بنظرات متبادلة من اللوم والعتاب والشعور بالذنب والتقصير تجاه الأمانة التي وضعها الله في عنقيهما. كيف لا والآباء والأمهات من الحيوانات والطيور يرعون صغارهم بحرص وعناية شديدين. ويفرغون أنفسهم بالتناوب لحماية الصغار من الأعداء، والبحث لهم عن الطعام، والرقاد على البيض حتى يفقس. ولا يتركون صغارهم حتى يشتد عودهم، ويدربونهم على مواجهة مصاعب الحياة ويعلمونهم على الصيد لتحصيل قوتهم من خشاش الأرض، ويثقفونهم بطبيعة الحياة ودروبها ومخاطرها، ولا يتركونهم أبداً قبل التأكد من أنهم يعتمدون على أنفسهم ويستطيعون تحصيل قوتهم والدفاع عن أنفسهم ضد الوحوش المفترسة في الغاب والبر، وذلك في إطار تأدية رسالة المخلوقات وعلى رأسها الإنسان. ويبدو أن باقي المخلوقات أدت الأمانة أكثر من الإنسان الذي ميزه الله بالعقل، وأعطاه وقتاً مفتوحاً للإستمتاع بغريزة الجنس على عكس باقي المخلوقات حيث وهبها الله الغريزة وحددها بوقت معين في العام للتكاثر وبأعداد كثيرة وذلك من باب تسخيرها لخدمة الإنسان وتوفير قوته واستمتاعه بجمالها ومنافعها، والتفكر بخلقها والتعلم منها بما أودع بها الله من أسرار خلقه ومعجزاته.
ونامت رنا مع طفلها بالمستشفى، وذهب فراس باكراً الى الجوازات ليخرج للخادمة ويسفرها الى بلدها في خروج بلا عودة. وكان قد قرر أن يضع زوجته بين خيارين لا ثالث لهما، إما العمل وإما الطفل. وتماثل الطفل تدريجياً للشفاء، وخرج من المستشفى ومعه برنامج تغذية طويل الأمد، ووصية من الطبيب للمراجعة كل اسبوع للإطمئنان على استمرار التحسن في مكونات الدم.
وفي البيت نادى فراس زوجته رنا ليعلمها قراره بخصوص الإختيار بين رعاية الطفل والعمل، وقبل أن يبدأ حديثه الذي فهمت سياقه بحدسها وخبرتها بزوجها ناولته ورقة، ولما فتحها وقرأها وجد أنها صورة عن استقالتها التي قدمتها للمستشفى. فارتاح ضميره، وعادت الحياة الى طبيعتها ومجاريها السلسة النظيفة النقية، وعاد الزوجان يستمتعان بطفلهما وبحريتهما واستقلالهما في بيتهما الى أن تحين الفرصة المناسبة والآمنة لعودتها لعملها دون التأثير على واجباتها تجاه ابنها وزوجها وبيتها.
وفي جلسة أنس وسمر بين الزوجين قال فراس لرنا : هلاّ عرفت يا رنا ليش أبو هيثم كا مربي لحيته ولابس دشداشة قصيرة، طيب ما انا عارفو لعّيب شدة مرّ ومدمن وما زال، هذا يا ستي إمام المسجد اليّ بحارتهم في معظم الصلوات بطنش وما بيجي يئم بالناس في المسجد، واتفق مع ابو هيثم يئم بالناس يوم هو ما بيجي وخاصة بصلاة الفجر على أساس يعطيه نص الراتب اليّ بوخذه الإمام من الأوقاف، وبدوره ابو هيثم تقمص شخصية الإمام حتى يتقبلوه الناس. ولما روح الأردن شال اللحية والشنب كمان وصبغ شعره ولبس افرنجي يعني بنطلون وقميص وشورت وتي شيرت.
فقالت له رنا : مش قلتلّك يا فراس اليوم الناس مصالح، والله يرحم المباديء والمرجلة والنخوة والشهامة. والله الواحد بطّل يصدق حدا، وأصلاً ما في حدا اليوم لحدا. خلينا ندير بالنا على حالنا ومستقبل أولادنا لعل وعسى يرجعونّا أيام النخوة والكرامة ويرجعونّا أوطانّا ويعيدوا سيرة أجدادنا.
بقلم أحمد ابراهيم الحاج
24/2/2010م
أمس في 21:45 من طرف جنى ميرو
» لماذا يعتبر متجراللورد الوجهة الأمثل لشراء الاشتراكات الرقمية
أمس في 21:20 من طرف جنى ميرو
» صيانة سخانات في دبي 0543747022 emiratefix.com
الأربعاء 20 نوفمبر 2024 - 20:54 من طرف جنى ميرو
» صيانة سخانات في دبي 0543747022 emiratefix.com
الأربعاء 20 نوفمبر 2024 - 19:53 من طرف جنى ميرو
» تركيب و تصليح سخانات مركزية في عجمان 0543747022
السبت 16 نوفمبر 2024 - 23:43 من طرف جنى ميرو
» تركيب و تصليح سخانات مركزية في عجمان 0543747022
السبت 16 نوفمبر 2024 - 23:11 من طرف جنى ميرو
» تصليح أفران في دبي 0543747022 emiratefix.com
السبت 16 نوفمبر 2024 - 22:15 من طرف جنى ميرو
» تصليح أفران في دبي 0543747022 emiratefix.com
السبت 16 نوفمبر 2024 - 22:11 من طرف جنى ميرو
» تصليح ثلاجات في دبي emiratefix.com 0543747022
السبت 16 نوفمبر 2024 - 0:11 من طرف جنى ميرو
» تصليح سخانات في دبي - 0543747022 (الشمسية و المركزية) emiratefix.com
الجمعة 15 نوفمبر 2024 - 20:33 من طرف جنى ميرو