الحوار في الشعر العربي القديم
الحوار في الشعر العربي القديم
شعر امرئ القيس أنموذجا
أ. م. د. محمد سعيد حسين مرعي
كلية التربية للبنات- جامعة تكريت
يعرّف الحوار على نحو عام بأنه ((تبادل الكلام بين اثنين أو أكثر، (أو أنه) نمط تواصل حيث يتبادل ويتعاقب الأشخاص على الإرسال والتلقي)) ( )، وإذا ما تأملنا تعاريف أخرى فلا نجدها تخرج عن هذا الإطار ( )، بيد أن ما ورد لم يكن تعريفاً جامعاً شاملاً ذلك بأنه أغفل نوعاً من الحوار مهماً وشائعاً وله جذور ضاربة في القدم، ولا سيما في الشعر ذلك ما يدعى بالحوار مع النفس، ويصطلح عليه ب ((المونولوج)) أو الحوار الداخلي، حيث لا يشترط مشاركة خارجية في الحوار، ولا تعاقب في الإرسال والتلقي، بل يلقى من طرف واحد وإليه، فهو ((نشاط أحادي لمرسل في حضور مستمع حقيقي أو وهمي)) ( )
وتبرز أهمية الحوار بأنواعه المختلفة في الشعر العربي القديم لتنفي عنه ذاتيته المطلقة، ذلك لأن أنسب الأساليب التي تلائم التعبير عن الأفكار في القصيدة هو الأسلوب الحواري فالحوار كالشعر لا مكان فيه للكلمة الزائدة ( )
كما أنه يتجاوز على نحو قصدي وخفي المتحاورين إلى طرف ثالث هو المتلقي، مما يخرجه عن صفة الكلام اليومي الذي يحدث عادة بين اثنين، ويضفي عليه حداً وظيفياً جديداً يمكن تلمسه من الإجابة عن التساؤل الآتي : -
هل يعدّ الحوار الذي يتخلل القصائد الشعرية حواراً قصصياً ؟ وهل بالإمكان عدّه مكافئاً للحوار الذي يتخلل القصص النثرية ؟
وللإجابة عن ذلك لا بد من معرفة الوظائف التي يؤديها الحوار في القصص النثرية، ولعل من أبرزها الكشف عن الشخصيات بمظهرها الخارجي أو الداخلي، والإسهام في بناء الحدث ونموه فضلاً عن خلق التلاحم بين عناصر العمل القصصي( ) فإذا أدّى الحوار في القصيدة أيّاً من هذه الوظائف أو أية وظيفة أخرى مشابهة تصعد من وتيرة الصراع بنوعيه الداخلي والخارجي – فلا حرج عندئذ من عدّة كذلك، أما للإجابة عن الشطر الثاني من التساؤل فنرى أن معظم النظريات الأدبية الحديثة تميل إلى طمس التمييز بين الأنواع الأدبية( )، ولا يخفى ما فعله أرسطو عندما وضع نظرية لدراسة الشعر، إذ يتضح التداخل الواضح بين الشعر والقصة والتاريخ،حيث إنّ القص أول ما ظهر شعراً، فتعود جذوره إلى أزمنة موغلة في القدم، فقد تداوله المصريون القدماء في معابدهم وطقوسهم الدينية، ثم جاء بعدهم اليونانيون فسجلوه في ملحمتيهم الإلياذة والأوديسا، ثم أن أولى الأساطير والقصص التي دونها الإنسان نظمت شعراً، كما هو الحال في الأساطير السومرية والبابلية، وإن ملحمة كلكامش هي الأخرى كتبت شعراً( ).
كما أن الواقع هو الأخر يعلمنا بعدم وجود أو حتى عدم إمكان وجود أعمال غنائية خالصة، أو قصصية خالصة، أو درامية خالصة، وهكذا نجد أن الأجناس الأدبية تشترك مع بعضها في غير قليل من السمات، ومسألة التنافذ أمر واقع بينهما لا يمكن تجاهله.
من هنا أحسب أن الحوار في الشعر لا يختلف عن الحوار في النثر إلا بمقدار ما يقدمه كل منهما من وظائف خدمة للاتجاه القصصي مع الأخذ بنظر الاعتبار خصوصيتهما، فالشعر يميل إلى الذاتية والنثر يميل إلى الموضوعية، وهذا لا يعني تناقضهما بل ((إن الذاتي في الشعر يشي بالموضوعي كما أن الموضوعي يدل على الذاتي ويتضمنه))( ).
إذ تمتزج الذات بالموضوع ويتعادل التعبير والإحساس وتغدو اللغة والصورة والإيقاع أدوات جديدة موظفة تحول الغنائية من غنائية الذات إلى غنائية التعبير فتتغنى الذات بموضوعها.
وعلى أساس ما تقدم يمكن تقسيم الحوار على نوعين رئيسين : -
1- الحوار الداخلي ((المونولوج)) حيث يدور بين الشخصية ونفسها أو ما يكون معادلاً للنفس نحو الأصحاب الوهميين والأشياء غير الناطقة... وسواها.
2- الحوار الخارجي (الدايالوج) ويقسم على :
أ- حوار مباشر: ويدور بين شخصيات القصة على نحو غير مباشر،إذ يوجه المتكلم كلامه مباشرة إلى متلقٍ مباشر ويتبادلان الكلام بينهما( ).
ب - حوار غير مباشر: وله صيغتان؛ الأولى تسمى النقل غير المباشر وفيه تضغط الأحداث ويختصر الزمن ويكون المنقول على درجة من الانتقائية والأخرى : تعتمد على المنقول المباشر، إذ يتم استدعاء حوار جرى في الماضي محافظاً على حرفيته وصيغته الزمنية( ).
وأحسب أن النوع الأول أي (الداخلي) أكثر شيوعاً في الشعر العربي الذي يعدّ ذاتياً، فغنائية الشعر العربي لا يختلف عليها اثنان يعضد ذلك طبيعة الحوار الداخلي ((فالمونولوج الداخلي يتصل بالشعر من حيث أنه ذلك الكلام الذي يسمع ولا يقال وبه تعبر الشخصية عن أفكارها المكنونة، دون تقيد بالتنظيم المنطقي، فخواطر الإنسان لا تقل أهمية أو دلالة عن كلامه أو أعماله وتسجيلها واجب على الفنان محتم))( ) وحتى عندما نجد حواراً خارجياً فإنه في الغالب – يأخذ صورة المناجاة أي من دون ردّ من المخاطب، وبالتالي يتماهى مع الحوار الداخلي.
يفهم من كلّ هذا أنّ الحوار بنوعيه السابقين يتجه لمخاطبة الآخر سواء أكان ذلك الآخر ذات الشاعر أم شخصاً غريباً أو أشياء أخرى (غير حية)، ولا يخفى على أحد ما لشعر امريء القيس خاصة من أهمية بالغة، وقيمة كبيرة، وشهرة واسعة، امتدت منذ عصر ما قبل الإسلام وإلى يومنا هذا، كما لا تخفى ريادته للشعر العربي في مجال الحوار والقصص الشعري من هنا جاء اختيارنا له ليكون الحوار في شعره أنموذجاً للحوار في الشعر العربي القديم إذ تكشف الدارسة إن شاء الله – عن تطوره ونضجه على الرغم من أنه يمثل البدايات الأولى للشعر العربي وبتعبير أدق أقدم ما وصل إلينا منه.
أطراف الحوار
وإذا كان الحوار يتجه للآخر – كما أسلفنا – ولتنوع الآخر وتعدده في شعر امريء القيس ارتأينا أن نضع ترتيباً للأطراف المحاورة كما يأتي : -
1- الحوار مع الذات : يحاور الشاعر نفسه عندما يجد حاجة ملحة لذلك نتيجة للصراع الذي ألمّ به والناشئ – عادة- : من بعد الأحبة لرحليهم، فيلجأ إليه ((لتقديم الحالات النفسية التي تتم في وعيه الخاص))( ) إذ يقول: ( )
سَما لَك شوقٌ بعدما كان أقصَرا وحلّتْ سُلَيـمى بطنَ قوّ فَعرْعَرَا
كِنانِيّةٌ بانتْ وفي الصّدْرِ وُدّها مجـاوِرةً غسانَ والحيّ يـعـمرا
بِعَينيّ ظعَنُ الـحيّ لمّا تحملُوا لَدَى جانبِ الأفلاجِ مِنْ جَنب تيمرا
فَشبّهتُهمْ في الآلِ لما تكمشوا حـدائقَ دَومٍ أو سَفيـنا مُقــيرَّا
........................... .................................
إذا نالَ منها نَظرةً ريـعَ قَلبُهُ كما دَعَرتْ كأسُ الصّبوح المخمّرا
أستهل الشاعر قصيدته بمخاطبة نفسه، التي ألم بها الشوق وأحاطها الحزن وذهب بها كلّ مذهب، حيث وصل إلى ذروته لبعد سليمى عنه بعد أن رحلت بعيداً.
تبرز الضمائر في المطلع الحواري للقصيدة / النص بتجلياتها المتنوعة لتسجل منبها أسلوبياً مهماً يفرض هيمنته في إنتاج الدلالة، وتنوعها من خلال التبادل (تبادل الضمائر) أو التحول (الالتفات) ؛
يبدأ الحوار ب ((سما لك)) ويبدو لأول وهلة أن الكلام يتوجه إلى شخص أخر (مخاطب) جاهل بالأمر / الخبر ( )، إلا أنه عند التأمل يتضح أن لا وجود للآخر، إن من يخاطبه هو ((ذات الشاعر))، وهذا ما شاع في الشعر العربي القديم، ويسمى بالتجريد وهو (إخلاص الخطاب لغيرك، وأنت تريد به نفسك)( )، ويعدّ نوعاً من الأقنعة يلجأ إليه الشاعر – أحياناً – لكسر الرتابة في الحديث، أو لتشويق المتلقي وإيهامه، أو أية أسباب أخرى يحددها السياق، كما أن الشاعر (معني بإقامة فاصل لغوي بينه وبين نفسه، ويؤدي هذا الفاصل وظيفة تضليلية توحي بأن الشاعر يخاطب آخر في حين أنه في الحقيقة – يخاطب ذاته)( )، وبذا فإن الشاعر يحاول شطر ذاته على ذاتيين ( ) : -
1- الذات الحقيقية (أنا الشاعر) متمثلة بشبكة المعارف التي تؤسسها الذات في حضورها الفعلي الوجودي
2- الذات الشعرية (أنا الشعر) وهي أنا الشاعر الفرضية التي تظهر في النص حيث تمثل – هنا – الذات الشعرية دور المتكلم / الآن بينما تمثل الذات الحقيقية دور المخاطب/أنت؛ ولذا فإن النظر في البنية العميقة للنص سيحيل على نتيجة مؤداها أن المتكلم هو ذات المخاطب ويمكننا توضيح ذلك من خلال المعادلة الآتية:
أنت (المخاطب) = ذات الشاعر (الحقيقية)
أنا (المتكلم) = الذات الشعرية
أنا = أنت
المتكلم = المخاطب
ولعل ما جعله يبادل بين الضمائر (أنا /أنت) – هنا – لإيجاد شريك يخفف عنه وطأة الهّم الذي ألم به جراء بعد الحبيبة بعد أن تخصص بذات الشاعر من خلال تقديم الجار والمجرور على المسند إليه (شوق).
ومما يؤكد أن المتكلم والمخاطب يعودان لمرجعية واحدة التفات الشاعر من ضمير الخطاب / أنت إلى ضمير التكلم / أنا، بحيث لم يستطع تأخيره إذ ظهر بسرعة وفي البيت الثالث :
بعيني...
ثم كرر ذلك في البيت الرابع ليؤكد حضور (الأنا) : فشبهتهم... كما أن المخاطب / الآخر الخارج من الذات (ذات الشاعر) لم يخرج عليها، بل يكاد يتوافق معها تماماً ويتوحدان معاً إزاء الآخر / المتحدث عنه / الحبيبة / سليمى، من حيث الموقف / الموضوع والمشاعر والأحاسيس تجاهها، وتجاه المكان الذي حلت فيه، فكلاهما – إن جاز لنا التعبير- يقران أن سليمى رحلت، وأنهما حزينان لفراقها، وإن قوّ وعرعر / وتيمر والأفلاج (الأمكنة / المكان) قد احتضنها، وعزلها عنهما / عنه.
فالحزن الناشئ عن البعد عن المكان أسهم في توحيد الذاتيين، ويترسخ البعد / الغياب من خلال ضمير الغائب (هو) الذي يبرز بعد حين من خلال الالتفات من التكلم إلى الغائب : إذا نال منها نظرة...
فالتحول من ضمير التكلم (أنا) فشبهتهم إلى ضمير الغائب (هو) في (نال...) يقترن بدلالة الانتقال من القرب إلى البعد ( ) الذي أفصح عنه النص بوضوح تام، حيث إن الشاعر أقام احتفالية وصفية رائعة لرحيل الحبيبة مشبهاً ظعنها بحدائق الدّوم تارة وبالسفين تارة أخرى، وبالنخيل المغروسات في الماء ثالثةً، ويأتي الطباق في الشطر الأول من المطلع :
سما لك شوق بعد ما كان أقصرا
ليدلل على التحول الذي حصل في أحاسيس الشاعر ومشاعره جراء بعد الحبيبة، فبعد أن كان الشوق خافتاً في القرب، تأجج وأشتد في البعد، ليتوافق تماماً مع ما حصل من تغيرات على المستوى اللغوي للنص، كما أن التغيير في الأمكنة وتعددها رافقه على المستوى اللغوي تعدد الضمائر وتحولها من خلال الالتفات.
بيد أن امرأ القيس ليس من النوع الذي يستسلم ويذعن للهم والحزن لبعد الأحبة عنه، فيرفض الذل والهوان ولم يترك نفسه على هواها بل يزجرها ويردعها( ):
فدَعْ ذا وسَلّ الهمّ عنكَ بجَسرةٍ ذَمُولٍ إذا صام النّهارُ وَهجّرا
يبرّز الشاعر بوساطة الحوار الداخلي ذروة الصراع الذي بلغته الحال الشعرية جراء بعد الأحبة عنه فأصبح الشاعر/أنا الشعرية بطرف وأنا الشاعر الحقيقية/ أنت (فدع...) بطرف آخر فإن استسلمت الأخيرة لليأس والحزن جاء صوت الشاعر ليرفض ذلك : دع ذكر الأحبة وأزل همك بالسفر على ناقة سريعة قوية وقت الهجيرة، وكل ذلك من أجل شدّ أزر هذه النفس وتسليتها التي أوشكت أن تستسلم للحزن الذي ألم بها.
ومثلما شكلّت الحبيبة معلماً بارزاً في حواره مع نفسه، نجد ديارها هي الأخرى لا تقل شأناً عن ذلك : ( )
حيّ الديارَ التي أبلّى معالمَها عواصفُ الصّيف بالخَرجاء والحِقبُ
ملاحظه:البحث في 13 صفحه
رابط تنزيل البحث مخفي.للمزيد ولتنزيل البحث ضع ردك لو سمحت ليظهر لك هنا
مع التحيه
الدكتور سليمان عطوان
الأربعاء 20 نوفمبر 2024 - 20:54 من طرف جنى ميرو
» صيانة سخانات في دبي 0543747022 emiratefix.com
الأربعاء 20 نوفمبر 2024 - 19:53 من طرف جنى ميرو
» تركيب و تصليح سخانات مركزية في عجمان 0543747022
السبت 16 نوفمبر 2024 - 23:43 من طرف جنى ميرو
» تركيب و تصليح سخانات مركزية في عجمان 0543747022
السبت 16 نوفمبر 2024 - 23:11 من طرف جنى ميرو
» تصليح أفران في دبي 0543747022 emiratefix.com
السبت 16 نوفمبر 2024 - 22:15 من طرف جنى ميرو
» تصليح أفران في دبي 0543747022 emiratefix.com
السبت 16 نوفمبر 2024 - 22:11 من طرف جنى ميرو
» تصليح ثلاجات في دبي emiratefix.com 0543747022
السبت 16 نوفمبر 2024 - 0:11 من طرف جنى ميرو
» تصليح سخانات في دبي - 0543747022 (الشمسية و المركزية) emiratefix.com
الجمعة 15 نوفمبر 2024 - 20:33 من طرف جنى ميرو
» تركيب و تصليح سخانات مركزية في الشارقة 0543747022
الأربعاء 13 نوفمبر 2024 - 21:30 من طرف جنى ميرو
» اداة ذكاء اصطناعي للباحثين وطلاب الدراسات العليا
الجمعة 26 أبريل 2024 - 11:23 من طرف Abd