فرسان بني كنعان / الجزء الثاني

فرسان بني كنعان / الجزء الثاني
ثورة البراق
................................................
يعتبر المسلمون حائط البراق وقفاً إسلامياً، وذلك بموجب صكوك قانونية يحتفظون بها وتخلوهم إدارة هذا المكان، وهو من المقدسات الإسلامية، في حين يدّعي اليهود وبدون مستند قانوني أو تاريخي أنه هو "حائط المبكى" وأهم مكان للعبادة في العالم بالنسبة لهم. وحدثت مشادات بين المسلمين واليهود بخصوص هذا الحائط. ففي فترة الحكم العثماني سمح العثمانيون لليهود بإقامة طقوسهم الدينية قبالة الحائط وابرم اتفاق شفوي بين العثمانيين واليهود يتعهد اليهود بموحبه عدم إقامة أي بناء بالقرب من الحائط وأن لا يضعوا أي شيء في باحته. وإبان فترة الإنتداب البريطاني على فلسطين طلب المسلمون من حكومة الإنتداب أن تحظر على اليهود وضع مقاعد في قاعة البراق وفي سبتمبر 1928م قامت الشرطة البريطانية برفع الستار الذي وضعه اليهود في مناسبة عيد الغفران على الرصيف المحاذي للحائط بموجب شكوى مقدمة من المسلمين لحكومة الإنتداب.
في 15 آب (أغسطس) 1929م والذي صادف احتفال المسلمين بعيد المولد النبوي الشريف وكذلك صادف يوم الحداد اليهودي على خراب الهيكل حسب تقويمهم، قامت حركة بيتار الصهيونية بتنظيم مظاهرة اشترك فيها عدد كبير من اليهود وكانوا يصيحون "الحائط لنا" وينشدون نشيد الحركة الصهيونية. وكانت الشرطة البريطانية قد أرسلت قواتٍ كبيرة من شرطتها لمرافقة المسيرة اليهودية.
في اليوم التالي رد المسلمون والعرب بتنظيم مظاهرة مضادة انطلقت من المسجد الأقصى متجهة صوب حائط البراق. وهناك خطب بهم الشيخ حسن ابو السعود الذي بيّن المخاطر التي تهدد المسجد الأقصى وفلسطين والأمة العربية. وازداد التوتر في القدس واندلعت اشتباكات عنيفة بين الجانبين. وفي الأيام التالية انتقلت عدوى المظاهرات الى مدن فلسطينية أخرى. وقام أهل الخليل بقتل 67 يهودياً من سكان المدينة. ولجأ بعض اليهود في مدينة الخليل الى بعض الشخصيات الفلسطينية المعارضة للعنف طالبين منهم التدخل لحمايتهم. ولكن اليهود في نهاية الأمر اضطروا لهجر مدينة الخليل خوفاًً على أرواحهم. وتعرض اليهود من سكان غزة لعمليات عنف وهجر عدد منهم المدينة في حماية القوات البريطانية. وتعرض يهود صفد لعمليات عنف مضادة أيضاً. واضطرت سلطات الإنتداب البريطاني التي كاد أن يفلت منها زمام الأمور أن تطلب الإمداد والمساعدة من القوات البريطانية التي كانت تعسكر في مصر وذلك للسيطرة على ثورة الفلسطينيين وهيجانهم والتي تشعبت وامتدت الى معظم مدن فلسطين.
وكانت حصيلة هذه الإشتباكات التي امتدت من الخليل وبئر السبع جنوباً الى صفد شمالاً، استشهاد 116 فلسطينياً ومقتل 133 يهودياً. وجرح 232 فلسطينياً مقابل 339 جريحاً يهودياً. وسقى الله على ذلك الزمن الجميل الذي يرجح كفة الفلسطينيين على كفة اليهود. وكم هي النسبة اليوم مختلفة عن نسبة الزمن القديم حيث أن نسبة اليوم ترجح كفة اليهود بفارق كبير جداً عن كفة الفلسطينيين!!!
وعلى إثر ذلك قامت قوات الإنتداب البريطانية بقمع الفلسطينيين وترك اليهود يعبثون بممتلكات الناس ومقدساتهم، واعتقلت سلطات الإنتداب ما يقارب الألف أسير من الفلسطينيين. وأقامت السلطات البريطانية محكمة لمحاكمة المقاومين بتهم باطلة، وأصدرت أحكاماً جائرة وظالمة وسافرة بحق ستة وعشرين مقاوماً فلسطينياً وهي الإعدام لهم جميعاً، (11 من الخليل و 14 من صفد و 1 من يافا) وخففت الحكم عن ثلاثة وعشرين فلسطينياً وقامت بتنفيذ حكم الإعدام بالثلاثة الباقين في 17 يونيو (تموز) 1930م وهم ثلاثة فرسان كنعانيين أبطال:
 الفارس الشهيد/ فؤاد حجازي من صفد
 الفارس الشهيد /محمد جمجوم من الخليل
 الفارس الشهيد /عطا الزير من الخليل
رحم الله الفرسان الثلاثة وتقبلهم شهداء الواجب وأسكنهم فسيح جناته بمشيئته تعالى.
وإثر هذه الأحداث تم الإحتكام الى عصبة الأمم بناء على توصية لجنة التحقيق "شو" والتي شكلتها الحكومة البريطانية وحددت الأطراف الثلاثة (الحكومة والعرب واليهود). وناقشت عصبة الأمم الشكوى وقبلت بتشكيل لجنة تحقيق محايدة من غير البريطانيين.
وبعد إجراء اللجنة للتحقيق وفي تقريرها المقدم لعصبة الأمم في عام 1930م، أقرت أن ملكية الحائط الغربي والرصيف الكائن أمامه وأمام المحلة المعروفة بحارة المغاربة تعود ملكيتها للمسلمين وحدهم لأنها جزء لا يتجزأ من مساحة الحرم القدسي الشريف. وكما أقرت اللجنة بأنه لا يجوز لليهود جلب أية أدوات عبادة أو وضع مقاعد أو سجاد أو كراسي أو ستائر أو حواجز أو أية خيمة جوار الحائط لأنه ملك للمسلمين.
وفي أكتوبر عام 1930م أعلنت الحكومة البريطانية سلسلة من الإجراءات هدفت الى امتصاص النقمة الشعبية الفلسطينية المتزايدة بناء على توصية لجنتين بريطانيتين حيث أمرت بتقليل عدد تصاريح الهجرة الى فلسطين وتعسير امكانية اليهود لشراء الأراضي من العرب.
وهنا لا بد من الحديث عن الفرسان الشهداء الثلاثة:

1. الشهيد البطل "فؤاد حسن حجازي": وهو أصغرهم سناً ولد في مدينة صفد عام 1904م ، أنهى دراسته الإبتدائية في صفد، وأكمل دراسته الثانوية بالكلية الأسكتلندية وتلقى تعليمه الجامعي بالجامعة الأمريكية ببيروت. قاد المظاهرات في مدينة صفد التي كانت مشتعلة بنيران الثورة. ونفذ فيه حكم الإعدام أولاً في الساعة الثامنة صباحاً من يوم الثلاثاء 17/6/1930م. وقد سمح له بكتابة رسالة الى أهله في اليوم السابق لإعدامه فكتب وصيته وبعث بها الى صحيفة اليرموك التي نشرتها يوم 18/6/1930م وجاء فيها " إن يوم شنقي يجب أن يكون يوم سرور وابتهاج، وكذلك يجب إقامة الفرح والسرور في يوم 17 حزيران من كل سنة، إن هذا اليوم يجب أن يكون يوماً تاريخياً تلقى فيه الخطب، وتنشد الأناشيد على ذكرى دمائنا المهراقة في سبيل فلسطين والقضية العربية".

2. الشهيد البطل "محمد خليل جمجوم" ولد بمدينة الخليل عام 1902م وتلقى دراسته الإبتدائية فيها وأكمل دراسته الجامعية في الجامعة الأمريكية ببيروت، وشارك في الأحداث الدامية التي تلت ثورة البراق ناشطاً وقائداً للمظاهرات. وعرف عنه معارضته الشديدة للسياسة البريطانية وللحركة الصهيونية. وقد طلب تقديم موعد إعدامه ليسبق موعد إعدام صديقه وحبيبه الشهيد عطا الزير لأنه لا يريد رؤيتة وهو يموت قبله. فأخذ موعد إعدام عطا الزير وتم إعدامه الساعة التاسعة من صباح يوم الثلاثاء 17/6/1930م. ومما جاء في رسالته التي كتبها في اليوم الذي سبق إعدامه " الآن ونحن على أبواب الأبدية، مقدمين أرواحنا فداء للوطن المقدس، لفلسطين العزيزة، نتوجه بالرجاء إلى جميع الفلسطينيين، الا تُنسى دماؤنا المهراقة وأرواحنا التي سترفرف في سماء هذه البلاد المحبوبة وأن نتذكر اننا قدمنا عن طيبة خاطر، أنفسنا وجماجمنا لتكون أساسا لبناء استقلال أمتنا وحريتها وأن تبقى الأمة مثابرة على اتحادها وجهادها في سبيل خلاص فلسطين من الأعداء. وان تحتفظ بأراضيها فلا تبيع للاعداء منها شبرا واحدا، والا تهون عزيمتها وان لا يضعفها التهديد والوعيد، وان تكافح حتى تنال الظفر. ولنا في آخر حياتنا رجاء إلى ملوك وامراء العرب والمسلمين في أنحاء المعمورة، الا يثقوا بالاجانب وسياستهم وليعلموا ما قال الشاعر بهذا المعنى: "ويروغ منك كما يروغ الثعلب". وعلى العرب في كل البلدان العربية والمسلمين ان ينقذوا فلسطين مما هي فيه الآن من الآلام وأن يساعدوها بكل قواهم. وأما رجالنا فلهم منا الامتنان العظيم على ما قاموا به نحونا ونحو أمتنا وبلادهم فنرجوهم الثبات والمتابعة حتى تنال غايتنا الوطنية الكبرى. واما عائلاتنا فقد اودعناها إلى الله والأمة التي نعتقد انها لن تنساها. والآن بعد أن رأينا من أمتنا وبلادنا وبني قومنا هذه الروح الوطنية وهذا الحماس القومي، فاننا نستقبل الموت بالسرور والفرح الكاملين ونضع حبلة الأرجوحة، مرجوحة الأبطال بأعناقنا عن طيب خاطر فداء لك يا فلسطين، وختاما نرجو أن تكتبوا على قبورنا: "إلى الامة العربية الاستقلال التام أو الموت الزؤام وباسم العرب نحيا وباسم العرب نموت"

3. الشهيد البطل "عطا أحمد الزير" ولد في مدينة الخليل عام 1895م، كان نصيبه من التعليم قليلاً لكنه كان ينظم الشعر، وقد عمل في مهن يدوية عديدة وكذلك عمل بالزراعة، وقد عرف بقوته الجسمانية وجسمه القوي الرياضي ، ومعارضته الشديدة للسياسة البريطانية وللحركة الصهيونية. وقد تم إعدامه ثالثاً يوم الثلاثاء 17/6/1930م.

لم يرهبهم الموت ولم يخافوا من حبل المشنقة بل تسابقوا على من يتقدم اولاً لمنصة الإعدام. وقبل موعد الإعدام بساعة استقبل فؤاد حجازي ومحمد جمجوم زواراً لتقديم التعازي لهما بموتهما فقال محمد جمجوم " الحمد لله نحن الذين لا أهمية لنا، نذهب فداءً لوطننا فلسطين، وليس اولئك الرجال الذين يحتاج الوطن الى جهودهم وخدمتهم" ثم طلب الحناء ليتحنى بها كما يتحنى العريس ليلة عرسه كعادة أهل الخليل.
وقال فؤاد حجازي للمعزين بموتهم " إذا كان إعدامنا نحن الثلاثة يزعزع شيئاً من كابوس الإنجليز على الأمة العربية الكريمة، فليحل الإعدام في عشرات الألوف مثلنا لكي يزول هذا الكابوس تماماً"

بقلم أحمد ابراهيم الحاج
29/8/2010م

مشكور جدا