بقلم أحمد ابراهيم الحاج
17/6/2009م
آمنة وخليل/الجزء الثاني
بعد انتهاء مهمة الغوث والنجدة للمستغيثة، وجدا نفسيهما وجهاً لوجه، وكان اللقاء الأول والنظرة الآولى المتبادلة بين آمنة وخليل، وبدأ بالحديث
خليل: ما شاء الله شو كبرانه يا آمنة ، أنا بعرفك وانت صغيرة أول ما جيتوا عندنا عالبلد، وبعدين بطلتي تبيّني، أنا ما بشوفك طول السنة عند أهلك ، وين بتروحي؟ ،
فردت عليه وهي تخبؤ خصلات شعرها المتمردة على منديلها ويساعدها على التمرد نسمات الهواء اللطيف، وكانت تنظر بعينيها تارة للأعلى في عينيه، وتارة للأسفل في تسبيلة للعيون مشوبة بالخجل الذي كان يبعث الحمرة في وجنتيها " أنا عند عمتي بمخيم الدهيشة بدرس في مدارس الوكالة. ما في بقريتكم إقبال على تدريس البنات، وما في مدرسة بنات عندكم "
تذكر خليل قصة خروجه من المدرسة مرغماً وتنهد تنهيدة قصيرة وقال لها
خليل: يعني إنت طالبة في المدرسة، فردت عليه بالإيجاب وسألته:
وإنت بتدرس في المدرسة، فتنهد تنهيدة متوسطة
وقال للأسف لا، أنا طلعوني أهلي من الصف الثالث الإعدادي، لكن مصصم أكمل دراستي لو في آخر يوم من حياتي، وسألها:
طيب إنتِ بأي صف هلاّ؟
فردت عليه أنا ترفيع الصف الأول ثانوي وخلصت الإعدادية السنة. وطبعاً مدارس الوكالة ما فيها ثانوي، رح أسجل بمدرسة البنات الحكومية في الخليل ، ورح أروح على المدرسة وأرجع كل يوم بالباص بأول نقلة من الصباح بكير،
فقال لها: ماشاء الله، والله ابوك رجل بفهم وبستحق كل خير اليّ سمح انك تتغربي وتدرسي بالمدرسة، يعني ما رح تروحي المخيم عند عمتك ورح تظلي عندنا بالبلد، واستطرد يقول "وأنا السنة هذي رح أرجع للمدرسة في الصف الأول ثانوي مثلي مثلك، ولكن في مدرسة في قرية كبيرة تبعد عن قريتنا بحدود سبعة كيلو متر وإن شاء الله رح أروح وآجي مشي على رجلي ، لأن والدي رفض أن يتحمل نفقات دراستي وستصرف أمي عليّ من دجاجاتها وحمامها وعيدياتها من إخوانها وستبيع من صيغتها لو اضطر الأمر لذلك ولن أنسى لها ذلك أبداً ما حييت".
فقالت له " عال والله انك مكافح وقليل من أمثالك في هالقرية فمعظم شبابها يعملون بالفلاحة ورعي الأغنام والأبقار أو ملتحقون بالجيش أو الحرس الوطني، وبناتها بتزوجن من سن الرابعة عشرة ولا بدخلن مدارس ولا ما يحزنون ، بصراحة ولا تآخذني بلدكم متأخرة شوية ، طيب أمي دارسة للصف السادس مثل ابوي، ولو ابوي كان شاطر في المدرسة وداير بالو على الدراسة كان ما طلعوه منها، وبدأت تسأله بمنهاج الثالث إعدادي ويجيب عليها بفهم واقتدار رغم غيابه عن المدرسة لمدة تزيد عن سنتين ونصف،
وقالت له " والله إني شعرت كأنك استاذ مش طالب.
وبينما هما يتبادلان الحديث السلس والودي والشيق والممتع لكليهما ، نسيا نفسيهما في غياب للعقل وحضور للعاطفة والجاذبية الفطرية بين الذكر والأنثى كما هي بين القطب الموجب والسالب، وفي ردهة من النسيان تحت عريشة العنب، سمعا صوتاً عالياً ينادي من بعيد من الكرم:
"يا خليل ، يا ولد، ثم ينخفض الصوت قليلاً ولكنه يظل مسموعاً "الله لا يبارك لك ولا يعطيك العافية يا خليل، بعدك ما نكشت الحبلة يا فلايسي، شو بتسوي كل هالوقت يا غضيب، والله ما أنا عارف شو بدها تسوي لك القراية والكتابة " وهنا ارتبك خليل واستأذن قائلاً:
هذا أبوي ، لقد نسيت، إنه بعثني لأنكش الحبلة لتجهيزها لزراعة البصل والثوم ، ويبدو أنه استطول غيبتي ويريد تكليفي بمهمة أخرى، وأدار وجهه اليها يسألها
" بكرة جاية على الكرم ، فردت عليه
"لازم من شان أريّح أمي في العطلة، فشعر بالراحة ، وسمعت آمنة صوت والده يؤنبه ويبهدله على عدم قيامه بالمهمة، وتأثرت وتألمت لحاله ، وعادت للبيت وقد عبأت سلتها بالعنب والتين، الطبقة السفلى من السلة كانت من العنب وفوقها ورق التين الذي يقطر منه الشّرى الأبيض كالحليب، ثم الطبقة العليا من التين المشطب الذي يقطر منه الندى ويستصرخ الشهية. وبيدها قفة فيها بعض أكواز الصبر الذي روَّضت أشواكه بتقليبه في التراب الأحمر.
تكرر اللقاء في اليوم التالي ، فبينما كان خليل في الكرم سمع صوتاً نسائياً مطرباً يأتي من الحكورة ويقول "وين عَ رام الله ، ولفي يا مسافر وين عَ رام الله ، وما تخاف من الله سبيت قليبي وما تخاف من الله ، وين يا حبيبي طولت الغيبة وين يا حبببي ، حظي ونصيبي ريتك يا ولفي حظي ونصيبي ، وبعدها تغير اللحن الى " أصلك خليلي يا عنب، طعمك حلي لي ياعنب، خليلي يا عنب " ثم تغير اللحن الى " ميلي ميلي يا شجرة التفاح ، ميلي ميلي عَ محمد هالفلاح ، ميلي ميلي هالله هالله عليه ، ميلي ميلي يا شجرة الليمون ، ميلي ميلي عَ محمد هالمزيون ..." أدرك خليل أن آمنة في الحكورة ، ولكنه تظاهر بالثقل وعدم الإنتباه، وبقي مستلقياً تحت شجرة اللوز التي اعتاد أن يقضي قيلولته تحتها مستمتعاً بصوت يطرق أذنيه بحنان ويدخل الى وجدانه بدون استئذان، وأخذ الصوت يقترب أكثر وأكثر، ولم يعد قادراً على المقاومة والصبر، فوقف ينظر لمصدر الصوت، فإذا بآمنة تقطف أكواز الصبر بجوار السنسلة، فاقترب منها وتنحنح معلناً عن وجوده بالكرم، ونظر ناحية الحكورة فإذا بآمنة تسترق النظر الى داخل الكرم باتجاهه، فتجرأ خليل وأطلقها من فمه تحية بصوته الجهوري، صباح الخير، فردت عليه آمنة "صباح النور" واقترب منها، وأخذ مكانه ليقابلها على الضفة الأخرى من السنسلة. وقال "يعطيك العافية ديري بالك من الشوك " فردت عليه "الله يزيدك عافية" وبدءا حديثهما يستكملان ما تحدثا به البارحة. ولم يتطرقا للتعبير عن شعور كل واحد تجاه الآخر، فكان حديثهما منصباً عن المدرسة والدراسة، وعن أحوال الأسرتين، وعن الغناء الذي كانت تغنيه وعن صوتها الجميل، فقال لها هل تعرفين ماذا كانت تغني فتيات قريتنا وهي تنطر الكروم وتقطف الثمار ، فقالت له : لا ، وماذا يغنيين؟ فقال لها " يا ناطورات المشطب في جواوي التين ، حنّينِ على العزب ترى العزب مسكين" فضحكت آمنة وقالت "يعني إنت مسكين" فقال لها "نعم في نظر أهل القرية أنا مسكين لأنني لم اتزوج بعد، ولكن هذا ما أريده أنا لنفسي باختياري، لأنني لن أتزوج حتى أتعلم، ولن أتزوج الاّ انسانة متعلمة" وقاطعته آمنة وقد احمرّت وجنتيها خجلاً ولتصرف الحديث عن هذا الموضوع الحساس بين الشاب والفتاة "حقاً إنه أيضاً غناء جميل من الفلكلور الفلسطيني. ولم يتجرأ أحدهما على الدخول في الموضوع الذي أصبح شاغلاً لهما على حد سواء دون أن يعلم كليهما ما يدور بخلد الآخر وما يتفاعل بداخله من مشاعر. تكررت اللقاءات بين آمنة وخليل في الكرم ، فهي تقف على طرف السنسلة من ناحية الحكورة وهو على الضفة الأخرى من السنسلة ناحية الكرم الكبير يتبادلان الأحاديث والنظرات الخجولة على استحياء ويخبئان في نفسيهما بركاناً من العواطف والأحاسيس.
ساءت علاقة خليل بوالده نظراً لتهربه من أعمال الفلاحة التي لم يكن يهواها وتعلقه بالعلم والقراءة ، وعدم طاعته لوالديه بعزوفه عن الزواج ، وأشيع في القرية بأنه لا ينفع النساء ، وعمد والده على تزويج إخوته الذين يصغرونه سناً واحداً تلو الآخر بعد أن أخرجهم من المدرسة ليساعدوه لأنه لم يجد في خليل العون والسند الذي كان يتوقعه من ابنه الأكبر.
فكر خليل كيف يفاتح آمنة بحبه لها ، والذي صار يؤرقه ليلاً ويشغل تفكيره صباحاً وظهراً ومساء.ً وهو قليل الخبرة والجرأة في التعامل مع الجنس الآخر وكيفية استقطابه ليوقعه في شباك حبه بالكلام المعسول والنفاق التمثيلي ، وأخيراً استقر رأيه على كتابة رسالة لها يفاتحها بحبه الجاد والمبني على نية الزواج، وذهب الى السقيفة المهجورة التي كان يسكنها أهل آمنة، ونظفها ورتبها ليتخذ منها سكناً له بعيداً عن العائلة التي أخرجته من حساباتها إلاّ من حنان والدته وحرقتها عليه وانشغالها بحاله الذي لا يسر عدواً ولا صديقاً، وصار يعيش فيها مع كتبه القديمة وقصاصات الأوراق التي يلملمها ، ويجتمع فيها مع أقرانه من قريته والذين استمروا بالدراسة يذاكر معهم الدروس، ويعيش مع ذكرياته في لقاءاته مع آمنة، وكانت أمه ترسل له الطعام والشراب خفية عن أبيه الذي نبذه وكاد أن يعلن براءته منه ويعتبره فلاحاً فاشلاً. وسرى في القرية مفهومٌ مفاده أن خليل مسحور أو معمول له عمل أو أنه مربوط. وكانت نظرة القرية له مبنية على هذا الأساس الذي أشاعه والديه بالذهاب الى الشيوخ والسحرة لعلاج عزوفه عن الزواج بدون أسباب مقنعة لأهل القرية. ولكثرة سؤالهم للأقارب والجيران للتدخل وإقناعه بالزواج الذي استحق في عرفهم منذ أمد بعيد. وطفق خليل يتخيل كيف وأين كانت تنام آمنة في السقيفة عندما سكنت عائلتها بها. وكتب رسالة الى آمنة غيّر وبدّل فيها الكثير ويبوح فيها بمشاعره المتأججة في دواخله نحوها لكنه لم يبح لها بكلمات الغزل في جمالها حتى تأذن له بذلك. كانت رسالته مقطوعة أدبية نادرة، فيها من جمال الكلام وصدق المشاعر نحوها ما ينبؤ عن حب عذري كحب قيسٍ وليلى، أساسه الإخلاص والوفاء للحبيبة دون النظر الى الغريزة وتدفقها بالشرايين. وفيها براعة الترتيب للأفكار ومنطق التبرير والمقدمات المتسلسلة بعناية للدخول الى قلبها. وفي صبيحة اليوم التالي يمم مبكراً قبل طلوع الشمس باتجاه الكرم باحثاً عن لقاء منتظر على أحر من الجمر، ولما تقابلا على ضفتي السنسلة ، وبعد تبادلهما حديثاً على هوامش الحب وأطرافه وليس في صلبه وداخل ملعبه، أخرج من جيبه الرسالة ومد يده من فوق السنسلة يناولها الرسالة وفيها يطلب منها كلمة السر لهذا الحب والدخول الى بستانه وجنانه المعلقة. تناولت منه الرسالة ويدها الناعمة ترتعش بدوافع الخوف والرهبة وكأنها تتوقع ما بداخلها ، ووعدته بقرائتها والرد عليها في اليوم التالي. عادت آمنة للحكورة لقراءة الرسالة التي كانت تتجاوز خمس صفحات كتبت بخطه الجميل. وعاد هو الى الكرم وقلبه يخفق بدقات سريعة ومتسارعة مع مرور الزمن. متوقعاً الإيجاب والسلب ومتردداً بين التفاؤل والإحباط ، ما يدعوه للتفاؤل هو شعوره المتأجج نحوها وملاطفتها له بالحديث واتفاقهما في وجهات النظر نحو العلم والتعلم والمستقبل ، وما يدعوه للإحباط هو مستواها التعليمي الذي يؤهلها للإرتباط بمن يفوقه علماً وعملاً ومستوىً من المتعلمين من أقاربها أو القلة منهم في قريته وقد تأخر به قطار التحصيل العلمي عن أقرانه. ونام تلك الليلة نوماً متموجاً ومتقطعاً بين التفاؤل والإحباط ، وبين السّهو واليقظة ينتظر الصبح على صفيح ساخن ملتهب بنار العواطف وملفوفاً بدخان الإنتظار.
تأخرت آمنة عن موعد قدومها المعتاد ، وبدأ الفأر يلعب في عب خليل، واكتسحت غيوم الإحباط شمس التفاؤل في نفسه وهو يتقلب على جمر من رمضاء الرفض الذي طغى على دفء الإيجاب. وأخذت الشمس ترتفع الى كبد السماء ، وأخذ منسوب اليأس في نفسه يعلو على منسوب التفاؤل ، فأخذ يجوب الكرم من شرقه الى غربه ومن شماله الى جنوبه مسرعاً في خطاه دون رؤية واضحة لمعالم الطريق واختفاء للهدف الذي كان يرنو اليه. واقترب الوقت من العصر، وزحفت نحوه الهزيمة تجرجر أذيالها وغيوم الندم تكتم على نفسه، وبينما هو على هذا الحال من القلق والتردد فوجيء بآمنة تقترب من السنسلة ، فأسرع نحوها وفي نيته الإعتذار لها عما بدر منه من اقتحام لحرمة أجواء حبها وعواطفها بتلك الرسالة المستعجلة المتسرعة والتي ربما تكون المعتدية على حب تحمله من مخيم عمتها الذي كانت تدرس فيه. ولمح على وجهها ابتسامة مشوبةً بالخجل ، وبينما كان يهم بإطلاق كلمات الإعتذار سبقته اليها وبادرته قائلة "لا تآخذني على التأخير ، اليوم رحت مع أمي نستلم المؤن من وكالة الغوث ، ومدت يدها من فوق جدار السنسلة وأعطته الجواب على رسالته. ولم يصدق هول المفاجأة ، ولم يتمالك نفسه وصبره على جمر الإنتظار الذي يصلي قلبه وجوارحه وسألها "قمحة والاّ شعيرة" فردت عليه لتزيد من قلقه في اختبار لعواطفه " مش رح أحكي لك ، خليها مفاجأة لما تقرأ الرسالة. وقال لها " أنا بحب الكشكوان اليّ بوزعوا على اللاجئين" فأومأت برأسها تهزه ايجاباً تقول له "وأنا كمان بحب الكشكوان، تكرم ، إن شاء الله بكرة رح أجيب لك، وأرجوك ألاّ تعتبر ذلك مؤشراً لما في الرسالة أو أن ذلك جواباً لما سألت. وهنا انفرجت أساريره قليلاً وعادت للإنكماش يقول في نفسه "لعلها تشفق علي وليس بالضرورة تحبني. وتبادلا حديثاً قصيراً متمنياً انتهاءه بسرعة لكي يرى نتيجته بالإختبار ، إنه اختبار الحياة الذي سيفضي للسعادة أو للشقاء في نظره لأن حبها تغلغل في أعماقه ولا يتصور أن يرتبط بإنسانة غيرها ، وإن لم يرتبط بها فسيسلك طريق الآلام والشقاء. وانتهى اللقاء وسألها ناسياً وعدها له بجبنة الكشكوان :أأنت قادمة نهار الغد الى الكرم؟ فردت عليه وهي تتصنع العبوس متناسية وعدها بالكشكوان لتلعب بعواطفه وتخضعه لإختبار الوفاء والصدق " لا أعلم ، ستجد الجواب في الرسالة ، وأدارت ظهرها تقول له سلام يا ابو الخل دون وعد باللقاء في اليوم التالي.
يتبع الجزر الثالث من قصة (آمنة وخليل)
بقلم أحمد ابراهيم الحاج
17/6/2009م
17/6/2009م
آمنة وخليل/الجزء الثاني
بعد انتهاء مهمة الغوث والنجدة للمستغيثة، وجدا نفسيهما وجهاً لوجه، وكان اللقاء الأول والنظرة الآولى المتبادلة بين آمنة وخليل، وبدأ بالحديث
خليل: ما شاء الله شو كبرانه يا آمنة ، أنا بعرفك وانت صغيرة أول ما جيتوا عندنا عالبلد، وبعدين بطلتي تبيّني، أنا ما بشوفك طول السنة عند أهلك ، وين بتروحي؟ ،
فردت عليه وهي تخبؤ خصلات شعرها المتمردة على منديلها ويساعدها على التمرد نسمات الهواء اللطيف، وكانت تنظر بعينيها تارة للأعلى في عينيه، وتارة للأسفل في تسبيلة للعيون مشوبة بالخجل الذي كان يبعث الحمرة في وجنتيها " أنا عند عمتي بمخيم الدهيشة بدرس في مدارس الوكالة. ما في بقريتكم إقبال على تدريس البنات، وما في مدرسة بنات عندكم "
تذكر خليل قصة خروجه من المدرسة مرغماً وتنهد تنهيدة قصيرة وقال لها
خليل: يعني إنت طالبة في المدرسة، فردت عليه بالإيجاب وسألته:
وإنت بتدرس في المدرسة، فتنهد تنهيدة متوسطة
وقال للأسف لا، أنا طلعوني أهلي من الصف الثالث الإعدادي، لكن مصصم أكمل دراستي لو في آخر يوم من حياتي، وسألها:
طيب إنتِ بأي صف هلاّ؟
فردت عليه أنا ترفيع الصف الأول ثانوي وخلصت الإعدادية السنة. وطبعاً مدارس الوكالة ما فيها ثانوي، رح أسجل بمدرسة البنات الحكومية في الخليل ، ورح أروح على المدرسة وأرجع كل يوم بالباص بأول نقلة من الصباح بكير،
فقال لها: ماشاء الله، والله ابوك رجل بفهم وبستحق كل خير اليّ سمح انك تتغربي وتدرسي بالمدرسة، يعني ما رح تروحي المخيم عند عمتك ورح تظلي عندنا بالبلد، واستطرد يقول "وأنا السنة هذي رح أرجع للمدرسة في الصف الأول ثانوي مثلي مثلك، ولكن في مدرسة في قرية كبيرة تبعد عن قريتنا بحدود سبعة كيلو متر وإن شاء الله رح أروح وآجي مشي على رجلي ، لأن والدي رفض أن يتحمل نفقات دراستي وستصرف أمي عليّ من دجاجاتها وحمامها وعيدياتها من إخوانها وستبيع من صيغتها لو اضطر الأمر لذلك ولن أنسى لها ذلك أبداً ما حييت".
فقالت له " عال والله انك مكافح وقليل من أمثالك في هالقرية فمعظم شبابها يعملون بالفلاحة ورعي الأغنام والأبقار أو ملتحقون بالجيش أو الحرس الوطني، وبناتها بتزوجن من سن الرابعة عشرة ولا بدخلن مدارس ولا ما يحزنون ، بصراحة ولا تآخذني بلدكم متأخرة شوية ، طيب أمي دارسة للصف السادس مثل ابوي، ولو ابوي كان شاطر في المدرسة وداير بالو على الدراسة كان ما طلعوه منها، وبدأت تسأله بمنهاج الثالث إعدادي ويجيب عليها بفهم واقتدار رغم غيابه عن المدرسة لمدة تزيد عن سنتين ونصف،
وقالت له " والله إني شعرت كأنك استاذ مش طالب.
وبينما هما يتبادلان الحديث السلس والودي والشيق والممتع لكليهما ، نسيا نفسيهما في غياب للعقل وحضور للعاطفة والجاذبية الفطرية بين الذكر والأنثى كما هي بين القطب الموجب والسالب، وفي ردهة من النسيان تحت عريشة العنب، سمعا صوتاً عالياً ينادي من بعيد من الكرم:
"يا خليل ، يا ولد، ثم ينخفض الصوت قليلاً ولكنه يظل مسموعاً "الله لا يبارك لك ولا يعطيك العافية يا خليل، بعدك ما نكشت الحبلة يا فلايسي، شو بتسوي كل هالوقت يا غضيب، والله ما أنا عارف شو بدها تسوي لك القراية والكتابة " وهنا ارتبك خليل واستأذن قائلاً:
هذا أبوي ، لقد نسيت، إنه بعثني لأنكش الحبلة لتجهيزها لزراعة البصل والثوم ، ويبدو أنه استطول غيبتي ويريد تكليفي بمهمة أخرى، وأدار وجهه اليها يسألها
" بكرة جاية على الكرم ، فردت عليه
"لازم من شان أريّح أمي في العطلة، فشعر بالراحة ، وسمعت آمنة صوت والده يؤنبه ويبهدله على عدم قيامه بالمهمة، وتأثرت وتألمت لحاله ، وعادت للبيت وقد عبأت سلتها بالعنب والتين، الطبقة السفلى من السلة كانت من العنب وفوقها ورق التين الذي يقطر منه الشّرى الأبيض كالحليب، ثم الطبقة العليا من التين المشطب الذي يقطر منه الندى ويستصرخ الشهية. وبيدها قفة فيها بعض أكواز الصبر الذي روَّضت أشواكه بتقليبه في التراب الأحمر.
تكرر اللقاء في اليوم التالي ، فبينما كان خليل في الكرم سمع صوتاً نسائياً مطرباً يأتي من الحكورة ويقول "وين عَ رام الله ، ولفي يا مسافر وين عَ رام الله ، وما تخاف من الله سبيت قليبي وما تخاف من الله ، وين يا حبيبي طولت الغيبة وين يا حبببي ، حظي ونصيبي ريتك يا ولفي حظي ونصيبي ، وبعدها تغير اللحن الى " أصلك خليلي يا عنب، طعمك حلي لي ياعنب، خليلي يا عنب " ثم تغير اللحن الى " ميلي ميلي يا شجرة التفاح ، ميلي ميلي عَ محمد هالفلاح ، ميلي ميلي هالله هالله عليه ، ميلي ميلي يا شجرة الليمون ، ميلي ميلي عَ محمد هالمزيون ..." أدرك خليل أن آمنة في الحكورة ، ولكنه تظاهر بالثقل وعدم الإنتباه، وبقي مستلقياً تحت شجرة اللوز التي اعتاد أن يقضي قيلولته تحتها مستمتعاً بصوت يطرق أذنيه بحنان ويدخل الى وجدانه بدون استئذان، وأخذ الصوت يقترب أكثر وأكثر، ولم يعد قادراً على المقاومة والصبر، فوقف ينظر لمصدر الصوت، فإذا بآمنة تقطف أكواز الصبر بجوار السنسلة، فاقترب منها وتنحنح معلناً عن وجوده بالكرم، ونظر ناحية الحكورة فإذا بآمنة تسترق النظر الى داخل الكرم باتجاهه، فتجرأ خليل وأطلقها من فمه تحية بصوته الجهوري، صباح الخير، فردت عليه آمنة "صباح النور" واقترب منها، وأخذ مكانه ليقابلها على الضفة الأخرى من السنسلة. وقال "يعطيك العافية ديري بالك من الشوك " فردت عليه "الله يزيدك عافية" وبدءا حديثهما يستكملان ما تحدثا به البارحة. ولم يتطرقا للتعبير عن شعور كل واحد تجاه الآخر، فكان حديثهما منصباً عن المدرسة والدراسة، وعن أحوال الأسرتين، وعن الغناء الذي كانت تغنيه وعن صوتها الجميل، فقال لها هل تعرفين ماذا كانت تغني فتيات قريتنا وهي تنطر الكروم وتقطف الثمار ، فقالت له : لا ، وماذا يغنيين؟ فقال لها " يا ناطورات المشطب في جواوي التين ، حنّينِ على العزب ترى العزب مسكين" فضحكت آمنة وقالت "يعني إنت مسكين" فقال لها "نعم في نظر أهل القرية أنا مسكين لأنني لم اتزوج بعد، ولكن هذا ما أريده أنا لنفسي باختياري، لأنني لن أتزوج حتى أتعلم، ولن أتزوج الاّ انسانة متعلمة" وقاطعته آمنة وقد احمرّت وجنتيها خجلاً ولتصرف الحديث عن هذا الموضوع الحساس بين الشاب والفتاة "حقاً إنه أيضاً غناء جميل من الفلكلور الفلسطيني. ولم يتجرأ أحدهما على الدخول في الموضوع الذي أصبح شاغلاً لهما على حد سواء دون أن يعلم كليهما ما يدور بخلد الآخر وما يتفاعل بداخله من مشاعر. تكررت اللقاءات بين آمنة وخليل في الكرم ، فهي تقف على طرف السنسلة من ناحية الحكورة وهو على الضفة الأخرى من السنسلة ناحية الكرم الكبير يتبادلان الأحاديث والنظرات الخجولة على استحياء ويخبئان في نفسيهما بركاناً من العواطف والأحاسيس.
ساءت علاقة خليل بوالده نظراً لتهربه من أعمال الفلاحة التي لم يكن يهواها وتعلقه بالعلم والقراءة ، وعدم طاعته لوالديه بعزوفه عن الزواج ، وأشيع في القرية بأنه لا ينفع النساء ، وعمد والده على تزويج إخوته الذين يصغرونه سناً واحداً تلو الآخر بعد أن أخرجهم من المدرسة ليساعدوه لأنه لم يجد في خليل العون والسند الذي كان يتوقعه من ابنه الأكبر.
فكر خليل كيف يفاتح آمنة بحبه لها ، والذي صار يؤرقه ليلاً ويشغل تفكيره صباحاً وظهراً ومساء.ً وهو قليل الخبرة والجرأة في التعامل مع الجنس الآخر وكيفية استقطابه ليوقعه في شباك حبه بالكلام المعسول والنفاق التمثيلي ، وأخيراً استقر رأيه على كتابة رسالة لها يفاتحها بحبه الجاد والمبني على نية الزواج، وذهب الى السقيفة المهجورة التي كان يسكنها أهل آمنة، ونظفها ورتبها ليتخذ منها سكناً له بعيداً عن العائلة التي أخرجته من حساباتها إلاّ من حنان والدته وحرقتها عليه وانشغالها بحاله الذي لا يسر عدواً ولا صديقاً، وصار يعيش فيها مع كتبه القديمة وقصاصات الأوراق التي يلملمها ، ويجتمع فيها مع أقرانه من قريته والذين استمروا بالدراسة يذاكر معهم الدروس، ويعيش مع ذكرياته في لقاءاته مع آمنة، وكانت أمه ترسل له الطعام والشراب خفية عن أبيه الذي نبذه وكاد أن يعلن براءته منه ويعتبره فلاحاً فاشلاً. وسرى في القرية مفهومٌ مفاده أن خليل مسحور أو معمول له عمل أو أنه مربوط. وكانت نظرة القرية له مبنية على هذا الأساس الذي أشاعه والديه بالذهاب الى الشيوخ والسحرة لعلاج عزوفه عن الزواج بدون أسباب مقنعة لأهل القرية. ولكثرة سؤالهم للأقارب والجيران للتدخل وإقناعه بالزواج الذي استحق في عرفهم منذ أمد بعيد. وطفق خليل يتخيل كيف وأين كانت تنام آمنة في السقيفة عندما سكنت عائلتها بها. وكتب رسالة الى آمنة غيّر وبدّل فيها الكثير ويبوح فيها بمشاعره المتأججة في دواخله نحوها لكنه لم يبح لها بكلمات الغزل في جمالها حتى تأذن له بذلك. كانت رسالته مقطوعة أدبية نادرة، فيها من جمال الكلام وصدق المشاعر نحوها ما ينبؤ عن حب عذري كحب قيسٍ وليلى، أساسه الإخلاص والوفاء للحبيبة دون النظر الى الغريزة وتدفقها بالشرايين. وفيها براعة الترتيب للأفكار ومنطق التبرير والمقدمات المتسلسلة بعناية للدخول الى قلبها. وفي صبيحة اليوم التالي يمم مبكراً قبل طلوع الشمس باتجاه الكرم باحثاً عن لقاء منتظر على أحر من الجمر، ولما تقابلا على ضفتي السنسلة ، وبعد تبادلهما حديثاً على هوامش الحب وأطرافه وليس في صلبه وداخل ملعبه، أخرج من جيبه الرسالة ومد يده من فوق السنسلة يناولها الرسالة وفيها يطلب منها كلمة السر لهذا الحب والدخول الى بستانه وجنانه المعلقة. تناولت منه الرسالة ويدها الناعمة ترتعش بدوافع الخوف والرهبة وكأنها تتوقع ما بداخلها ، ووعدته بقرائتها والرد عليها في اليوم التالي. عادت آمنة للحكورة لقراءة الرسالة التي كانت تتجاوز خمس صفحات كتبت بخطه الجميل. وعاد هو الى الكرم وقلبه يخفق بدقات سريعة ومتسارعة مع مرور الزمن. متوقعاً الإيجاب والسلب ومتردداً بين التفاؤل والإحباط ، ما يدعوه للتفاؤل هو شعوره المتأجج نحوها وملاطفتها له بالحديث واتفاقهما في وجهات النظر نحو العلم والتعلم والمستقبل ، وما يدعوه للإحباط هو مستواها التعليمي الذي يؤهلها للإرتباط بمن يفوقه علماً وعملاً ومستوىً من المتعلمين من أقاربها أو القلة منهم في قريته وقد تأخر به قطار التحصيل العلمي عن أقرانه. ونام تلك الليلة نوماً متموجاً ومتقطعاً بين التفاؤل والإحباط ، وبين السّهو واليقظة ينتظر الصبح على صفيح ساخن ملتهب بنار العواطف وملفوفاً بدخان الإنتظار.
تأخرت آمنة عن موعد قدومها المعتاد ، وبدأ الفأر يلعب في عب خليل، واكتسحت غيوم الإحباط شمس التفاؤل في نفسه وهو يتقلب على جمر من رمضاء الرفض الذي طغى على دفء الإيجاب. وأخذت الشمس ترتفع الى كبد السماء ، وأخذ منسوب اليأس في نفسه يعلو على منسوب التفاؤل ، فأخذ يجوب الكرم من شرقه الى غربه ومن شماله الى جنوبه مسرعاً في خطاه دون رؤية واضحة لمعالم الطريق واختفاء للهدف الذي كان يرنو اليه. واقترب الوقت من العصر، وزحفت نحوه الهزيمة تجرجر أذيالها وغيوم الندم تكتم على نفسه، وبينما هو على هذا الحال من القلق والتردد فوجيء بآمنة تقترب من السنسلة ، فأسرع نحوها وفي نيته الإعتذار لها عما بدر منه من اقتحام لحرمة أجواء حبها وعواطفها بتلك الرسالة المستعجلة المتسرعة والتي ربما تكون المعتدية على حب تحمله من مخيم عمتها الذي كانت تدرس فيه. ولمح على وجهها ابتسامة مشوبةً بالخجل ، وبينما كان يهم بإطلاق كلمات الإعتذار سبقته اليها وبادرته قائلة "لا تآخذني على التأخير ، اليوم رحت مع أمي نستلم المؤن من وكالة الغوث ، ومدت يدها من فوق جدار السنسلة وأعطته الجواب على رسالته. ولم يصدق هول المفاجأة ، ولم يتمالك نفسه وصبره على جمر الإنتظار الذي يصلي قلبه وجوارحه وسألها "قمحة والاّ شعيرة" فردت عليه لتزيد من قلقه في اختبار لعواطفه " مش رح أحكي لك ، خليها مفاجأة لما تقرأ الرسالة. وقال لها " أنا بحب الكشكوان اليّ بوزعوا على اللاجئين" فأومأت برأسها تهزه ايجاباً تقول له "وأنا كمان بحب الكشكوان، تكرم ، إن شاء الله بكرة رح أجيب لك، وأرجوك ألاّ تعتبر ذلك مؤشراً لما في الرسالة أو أن ذلك جواباً لما سألت. وهنا انفرجت أساريره قليلاً وعادت للإنكماش يقول في نفسه "لعلها تشفق علي وليس بالضرورة تحبني. وتبادلا حديثاً قصيراً متمنياً انتهاءه بسرعة لكي يرى نتيجته بالإختبار ، إنه اختبار الحياة الذي سيفضي للسعادة أو للشقاء في نظره لأن حبها تغلغل في أعماقه ولا يتصور أن يرتبط بإنسانة غيرها ، وإن لم يرتبط بها فسيسلك طريق الآلام والشقاء. وانتهى اللقاء وسألها ناسياً وعدها له بجبنة الكشكوان :أأنت قادمة نهار الغد الى الكرم؟ فردت عليه وهي تتصنع العبوس متناسية وعدها بالكشكوان لتلعب بعواطفه وتخضعه لإختبار الوفاء والصدق " لا أعلم ، ستجد الجواب في الرسالة ، وأدارت ظهرها تقول له سلام يا ابو الخل دون وعد باللقاء في اليوم التالي.
يتبع الجزر الثالث من قصة (آمنة وخليل)
بقلم أحمد ابراهيم الحاج
17/6/2009م
الأربعاء 20 نوفمبر 2024 - 20:54 من طرف جنى ميرو
» صيانة سخانات في دبي 0543747022 emiratefix.com
الأربعاء 20 نوفمبر 2024 - 19:53 من طرف جنى ميرو
» تركيب و تصليح سخانات مركزية في عجمان 0543747022
السبت 16 نوفمبر 2024 - 23:43 من طرف جنى ميرو
» تركيب و تصليح سخانات مركزية في عجمان 0543747022
السبت 16 نوفمبر 2024 - 23:11 من طرف جنى ميرو
» تصليح أفران في دبي 0543747022 emiratefix.com
السبت 16 نوفمبر 2024 - 22:15 من طرف جنى ميرو
» تصليح أفران في دبي 0543747022 emiratefix.com
السبت 16 نوفمبر 2024 - 22:11 من طرف جنى ميرو
» تصليح ثلاجات في دبي emiratefix.com 0543747022
السبت 16 نوفمبر 2024 - 0:11 من طرف جنى ميرو
» تصليح سخانات في دبي - 0543747022 (الشمسية و المركزية) emiratefix.com
الجمعة 15 نوفمبر 2024 - 20:33 من طرف جنى ميرو
» تركيب و تصليح سخانات مركزية في الشارقة 0543747022
الأربعاء 13 نوفمبر 2024 - 21:30 من طرف جنى ميرو
» اداة ذكاء اصطناعي للباحثين وطلاب الدراسات العليا
الجمعة 26 أبريل 2024 - 11:23 من طرف Abd